إيران بعد الثورة.. سلطة الحاكم المطلق

إذا شكل رجال الدين والعلماء الشيعة الجمهورية الإسلامية في إيران، فمن العدل القول إن الجمهورية الإسلامية شكلت أو حتى أحدثت ثورة في رجال الدين والعلماء الشيعة أيضاً – وليس في إيران فحسب، بل في العالم الشيعي أيضاً. وتقوم الجمهورية الإسلامية في إيران على افتراض أن الفقيه الحاكم أو آية الله له سلطة مطلقة لإدارة جميع جوانب البلد أو حتى العالم الإسلامي – كما يطلق الإعلام الرسمي في إيران على آية الله علي خامنئي زعيم العالم الإسلامي. وتسمح له سلطته بإلغاء القانون الدستوري والعادي، بل والقانون الإسلامي إن كان من شأن تطبيق الشريعة أو قانون آخر تهديد مصلحة البلد. ولذلك لا تمر الجمهورية الإسلامية بفترة «المؤسسة» وتبقى دائماً في مرحلة «الثورة».

وبإمكان المرشد الأعلى للجمهورية أن يعلن «حالة الطوارئ» في أي وقت يرغب فيه بتعليق الدستور الإسلامي من أجل المصلحة أو «منفعة النظام». وهكذا ليس الإسلام هو ما يمنح الشرعية للدولة، بل هي الإرادة المطلقة للمرشد الأعلى التي تحدد الطبيعة الإسلامية للحكومة.

غني عن القول إن الكثير من آيات الله في إيران وغيرها يعارضون فكرة «ولاية الفقيه» منذ أن أدخل آية الله الخميني مؤسس الجمهورية الإسلامية الإيرانية تصوره للفكرة. لا يزال هناك عدد من آيات الله المعتبَرين ممن لا يؤيدون بالكامل ذلك التصور للفكرة، على الرغم من أنه قد يكون لهم تفسيرهم الخاص للسلطة الشرعية للفقيه. ولا يستطيع المرء فهم العلاقة بين الجمهورية الإسلامية الإيرانية والمؤسسة الدينية الشيعية فقط بالفصل بين من يؤمنون بالولاية المطلقة للفقيه ومن لا يؤمنون بها.

ويفترض الفقه الشيعي التقليدي أن الإمام الحي المعصوم الحاضر هو من له الحق الشرعي في تأسيس الحكومة الدينية، ولكن لأن الفوضى غير مقبولة، فإن الحاكم المطلق للأراضي الشيعية يصبح هو الشخص الشرعي الذي يدير البلاد بشرط أن يحمي مصلحة المجتمع الشيعي ويؤمن الأراضي الشيعية ويحمي حدودها.

من ناحية أخرى، فإن مرشد الجمهورية الإسلامية الإيرانية يمنح مزايا سياسية واقتصادية حصرية لرجال الدين.. وهناك حوالى 350 ألف رجل دين، وأكثر من 60 ألف عالمة مجتهدة، وأكثر من 20 ألف رجل دين غير إيراني في إيران.

من الواضح أنه لا يمكن أن يكون مجتمع رجال الدين والعلماء مكوناً من فئة واحدة، فهناك اختلافات شديدة تتعلق بالأجيال واختلافات آيديولوجية واجتماعية واقتصادية بين رجال الدين والعلماء. لكن كل رجل دين يستفيد من الهيكلية الدينية الجديدة التي كونتها الحكومة. ويتمتع رجال الدين والعلماء في هذه الهيكلية – بغض النظر عن ولائهم للحكومة أو اعتمادهم عليها – برفاهية أكبر كثيراً مما كان قبل الثورة الإسلامية. وحدثت ثورة في الأحوال الاقتصادية لرجال الدين والعلماء بعد الثورة. ولم تعُد ضريبة الخُمس هي المصدر المالي الحصري لهم. ورجال الدين والعلماء حتى أولئك الذين ينأون بأنفسهم عن الحكومة منخرطون في أنشطة اقتصادية ما كان يمكن تخيلها قبل الثورة. ومكنت الجمهورية الإسلامية رجال الدين والعلماء من «إبعاد الدين» عن اقتصادهم. وربطت الحكومة كذلك شبكتها السياسية في الشرق الأوسط ببقية الشيعة في المنطقة. وبعبارة أخرى يرجع الفضل للجمهورية الإيرانية في تسييس الشبكة الشيعية حتى تتمكن من خدمة الأجندة الإقليمية للجمهورية الإسلامية، أو على الأقل عدم المقدرة على إيذائها.

صحيح أن معظم الشيعة في الشرق الأوسط باستثناء الشيعة العرب العلمانيين والشيعة المعادين لإيران الذين يشكلون أقلية أو ضعيفون سياسياً، ينظرون إلى الحكومة الإيرانية ليس بوصفها دولة وطنية فحسب، بل بوصفها الحامي الرئيسي للمجتمع الشيعي.

وأجبرت التطورات السياسية في المنطقة، إضافة إلى الرفاهية الاقتصادية لرجال الدين والعلماء في ظل الجمهورية الإسلامية، الكثير من منتقدي الولاية المطلقة وولاية الفقيه على الاعتراف بالجمهورية الإسلامية، ليس باعتبارها الحكومة الدينية الشرعية، بل باعتبارها الحاكم المطلق الذي يستطيع تأمين الأراضي الشيعية ضد أعدائها وحماية مصالح المجتمع الشيعي.

كما يُمكّن إحياء التقليد السياسي للمذهب الشيعي آيات الله الزاهدين التقليديين من الاعتراف بسيادة وتفوق الجمهورية الإسلامية وسلطة الفقيه الحاكم، من أجل ضمان حريتهم في توسيع أنشطتهم الدينية والاقتصادية ضمن إطار عمل «المرجعية».

أسست الجمهورية الإسلامية الإيرانية علاقة متعقدة مع رجال الدين والعلماء الشيعة تتعدى حدود الاستقلال الاقتصادي والسياسي المباشر لبعض المؤسسات أو الأفراد بإيران. وعلى الرغم من ان آية الله خامنئي بصفته الفقيه الحاكم حالياً لا يتمتع بالسلطة والنفوذ الكلي ولا يستطيع التحكم بشكل كامل في المؤسسة الدينية وشبكتها في الشرق الأوسط، لكنه قادر على وضع حدود لسلطة رجال الدين والعلماء وصياغة القرارات السياسية بصورة غير مباشرة أو التأثير على صياغتها. أيضاً من الصعب جداً على أي آية الله غير إيراني أن يصبح مرجعاً يُتّبع في إيران وخارجها دون تكوين علاقة مع آية الله خامنئي مع مكاتب ومؤسسات له في قُم.

يمر الطريق إلى المرجعية عبر الأقطار من خلال قُم والجمهورية الإسلامية. ومن الممكن ألا يؤدي التوتر المتزايد بين الشيعة والسنة في المنطقة إلا إلى تقوية إيران ولا سيما وضع آية الله خامنئي بوصفه «الحاكم المطلق لمجتمع الشيعة وأراضيها».

السابق
شركات التنقيب والإستحقاق الرئاسي
التالي
كم من غير المقاتلين يقتلون بطائرات الدرون؟