رؤية في الدين والإبداع والحرية (1)

لا نخالف الرأي عن سوء استخدام الحرية في مجال الإبداع الأدبي، بل نؤكد أن إطلاق الحرية في مجال الإبداع الأدبي لا بد أن يفضي إلى نصوص تتنافى قيمها ومفاهيمها مع قيم الإسلام ومفاهيمه. لكنّنا مع ذلك لا نميل إلى وضع شروط على حرية المبدع إلاّ الشروط المشتقة من قواعد الحرية نفسها، فالحرية لا تقيّد إلاّ بقواعدها، ومن قواعد الحرية تكريس حق الاختلاف من جهة واحترام حرية الآخر من جهة أخرى.

يسعى الإنسان عبر هذا الوجود إلى تحقيق ذاته من طريق السعي الدائم لامتلاك الحرية.. حريته الكاملة. ويوم يُقدَّر للإنسان أن يمتلك حريته الكاملة في هذا الوجود فإنّ حقلاً من حقول النشاط الإنساني لا يعود ثمة مبرر لاستئنافه هو الفن. الفن بصورة شاملة. يتوقف الفن حين تكتمل الحرية!

إن النشاط الفني مرتبط بحاجة الإنسان إلى الحرية وسعيه الدائم لها، وكل نشاط فني إبداعي هو في جوهره اقتراح لصورة الوجود على نحو أكثر حرية.

ضمن هذه الرؤية لغاية النشاط الفني الإبداعي، في جانب أساسي من طبيعته، يغدو هذا النشاط كفاحاً وصراعاً ضد القيود والمصادرات التي تحاصر رغبة الكائن الإنساني في تحقيق ذاته.

إن الفنّ، والدين أيضا، هما من أبرز الميادين التي يتجلى فيها السعي، بل الكدح الإنساني، في اتجاه التحقق. إن حرية الكائن الإنساني هي الهدف الأسمى والأبقى للدين، لكن بوسائل أخرى تتيح لكل كائن إنساني أن يمارس بصورة مباشرة فعل التصعيد في اتجاه المطلق، أي الله: {يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه}. بخلاف الفن إبداعاً وتذوقاً حيث يبقى في نزوعه الفلسفي والجمالي الأرقى هماً نخبوياً، لكن ليس بدون طموح إلى تعميم هذا الهم على الاجتماع الإنسان كله.

إن طبيعة الإبداع الأدبي لا تختلف لجهة النزوع إلى تحقيق الحرية عن سائر أنواع الإبداع الفني الأخرى. إن الرسم والنحت والموسيقى والشعر والمسرح وجميع الفنون الأخرى لا تختلف إلا من حيث مادة تشكلها، أما طبيعتها فواحدة من حيث الرؤية إلى الوجود من طريق استحضار طاقة الحلم والحدس مما يحتم – بالضرورة – أن تكون الحرية شرطاً لإمكان النشاط الإبداعي وهدفاً له في آن واحد.

إن المبدع، فيما يستحضر طاقة الحلم والحدس لمواجهة العالم، يصل بالضرورة إلى مواجهة مع أشكال القيود والمصادرات كلها. ونتيجة هذه المواجهة التي يخوضها المبدع، وبعد إنجاز عمله، تغدو مساحة الحرية أوسع، لكن بواسطة الحرية نفسها التي اعتملت في داخل المبدع، أي في ذاته قبل مباشرة عمله الإبداعي وأثنائه.

من هنا فإنّ الحرية شرط للنشاط الإبداعي وهدف له في آن واحد. لا يمكنني أن أتصور إنجازاً إبداعياً لا يتضمن اختراقاً للسائد وتجاوزاً له. وكل اختراق للسائد هو في الضرورة انجاز يضيف مساحة جديدة الى حرية الكائن الإنساني الحاضرة بسلطة السائد. إن الإبداع الأدبي لا يختلف من حيث جوهره عن سائر أنواع الإبداع الأخرى وإن كانت مادته اللغة، فيما الخط واللون والصوت والحجر والخشب هي المواد التي تتشكل منها الفنون الأخرى من رسم ونحت وعمارة وموسيقى.. إلخ. ولأن اللغة هي مادة الإبداع الأدبي فإن الأدب يغدو أكثر مساساً وتماساً مع الاجتماع الإنساني.

فاللغة هي أكثر وسائل التعبير شيوعاً في الاجتماع الإنساني وهي الرمز المعتمد لصوغ الشرائع والقوانين والقيم والعلوم والأفكار والتاريخ وسائر مقومات الاجتماع الإنساني.. ما يجعل الإبداع الأدبي، ووساطته اللغة، مجالاً لإشكالات أكبر وأكثر أهمية وحساسية. فهو يستخدم محمولات اللغة السائدة والمكرسة إلى آفاق ومساحات تعود بدورها لتمنح اللغة محمولات جديدة غير تلك المألوفة والمتعارف عليها.

الإبداع الأدبي هو في صورة ما تفجير للغة لا بمعنى إعدامها ولكن بمعنى إعادة تشكيلها بما يجعلها تتجاوز محمولاتها. وكل تجاوز لمحمولات اللغة هو تجاوز للسائد وعدوان عليه وإرهاص ببدائل جديدة أي بعالم جديد وقيم مختلفة. ومن هنا خطورة الإبداع الأدبي، فهو حين يبدو مجرد استخدام جديد للغة وإبداع علاقات جديدة وغير مألوفة بين مفرداتها، تكون اللعبة قد ذهبت إلى أبعد من ذلك.. تكون قد اقتحمت حدود الممنوع والسائد والمقدس من نظام القيم وانساقها المكرسة.

يتلخص مما تقدم إننا نرى أنّ ثمة ارتباطاً عضوياً بين مفهومي الحرية والإبداع الأدبي، بما يعني أننا إذا أردنا أن نتيح فرصة الإبداع فلا مفر لنا من قبول شرط الحرية. وإذا كان ثمة من يتحفّظ عن شرط الحرية الكاملة للمبدع فهو تحفظ عن مبدأ الإبداع! وهذا ما يقودنا إلى السؤال المطروح حول موقف الإسلام من الإبداع الأدبي!

يرى البعض أن الحرية الكاملة للمبدع لا تضمن عدم الإساءة لمقدسات الإسلام وقيمه ومفاهيمه الثابتة بما يحتم التدخل في هذه الحرية وتحديدها ووضع الشروط الضامنة لمنع سوء استخدامها.

نحن لا نخالف هذا البعض رأيهم في شأن سوء استخدام الحرية ضمن مجال الإبداع الأدبي، بل نؤكد أن إطلاق الحرية في مجال الإبداع الأدبي لا بد أن يفضي، في ما يفضي إليه، إلى نصوص تتنافى قيمها ومفاهيمها مع قيم الإسلام ومفاهيمه. لكنّنا مع ذلك لا نميل إلى وضع شروط على حرية المبدع إلاّ الشروط المشتقة من قواعد الحرية نفسها، فالحرية لا تقيّد إلاّ بقواعدها، ومن قواعد الحرية تكريس حق الاختلاف من جهة واحترام حرية الآخر من جهة أخرى.

(يتبع)

السابق
لا أمل إلا بتسوية سياسية
التالي
عرسال: تكرار عين الرمانة