الإغتصاب الحلال

اغتصاب حلال
في العصرين اللبنانيين البارزين، "الذهبي" منهما والحربي الأهلي، عرف اللبنانيون "خطفاً" بقصد الزواج، بسبب معارضة الأهل، لأسباب أبرزها طبقية أو دينية. فقير يريد الزواج من غنية، أو العكس، أو مسيحي يحب مسلمة... أو أشياء شبيهة.

منذ أيام، أطلّ المواطن جهاد سعيد قرحاني من بلدة فنيدق العكارية، وهو في حالة من الغضب الشديد، لا تفتره دموعه المحبوسة. يروي محمود، والخنْقة تلازمه، بأن ابنته فاطمة البالغة الحادية عشرة من العمر، قد خُطفت، والخاطف ليس بمختبىء؛ انه الشاب محمود صلاح الدين، 21 عاماً؛ فهو “مغروم” بها، ويريد ان يتزوجها، وهي الآن في بلدة السويسة القريبة، في الحضن الدافىء لعائلة محمود، بين أبويه.

            برغم كل مناشدات أهل فاطمة القضاء والدولة والـ”مسؤولين” (الثلاثي الغائب)، كي يتدخلوا ويعيدوا ابنتهم الى حياتها، كل البكاء على طفولتها الضائعة،  وهذه الضجة الإعلامية… النتيجة الرسمية جاءت منذ أيام: تمت “المصالحة” بين العائلتين، قرحاني وصلاح الدين، و”عُقد قران” فاطمة على محمود، بحضور “فعاليات” من العائلتين، وبحضور وكلاء “العريس والعروس”. والأخير هو عم العروس، لأن والدها أبى الحضور “لشدة غضبه وعدم  قدرته على تقبّل الأمر”. وهو لم يقتنع أبداً بشريط الفيديو الذي أرسلته له فاطمة، والذي تدعوه فيه إلى الكفّ عن “ملاحقتها”، لأنها لن تعود إلى المنزل وستمضي بقية حياتها إلى جانب زوجها لأنها تحبه وهي التي طلبت منه أن يتزوجها… هذا الكلام يثير عنده المزيد من الغضب والعجز. هنا تنتهي أحداث قصة فاطمة. هي ليست الأولى التي تخرج إلى الإعلام، ولكنها، على الأرجح، هي أولى القصص التي نتطلع على خواتمها بهذا الوضوح.

إنها سابقة، والسوابق أقوى من القوانين والأعراف، أحيانا. بل قد تأخذ مكانها.

أولا: في العصرين اللبنانيين البارزين، “الذهبي” منهما والحربي الأهلي، عرف اللبنانيون “خطفاً” بقصد الزواج، بسبب معارضة الأهل، لأسباب أبرزها طبقية أو دينية. فقير يريد الزواج من غنية، أو العكس، أو مسيحي يحب مسلمة… أو أشياء شبيهة. كانت قصص الغرام المستحيلة هذه تحصل بين شابين تجاوزا مرحلة الطفولة، وهما إما في مرحلة مراهقة متأخرة، أو رشد. الآن، انخفض عمر المخطوفة، وقد باتت “جاهزة”…

ما تغير عن عقود القرن الماضي، هو المجتمع ، تغيرت عقليته. المصالحة” بين الخاطف والمخطوفة لم تتم بقوة إلهية، إنما بضغط هائل على أهل المخطوفة، من قبل “فعاليات بلدة فنيدق”، ورعاية آمر سرية حلبا في قوى الأمن الداخلي. يصف عم المخطوفة هذا الضغط، فيقول: “أُجبرنا على المصالحة بعد فشل كل المساعي التي قامت بها العائلة لإستعادة الطفلة، بحجة ان العملية تمت برضاها…”؛ ويضيف: “وضعونا أمام الأمر الواقع بعدما قاموا بتزويج الفتاة”. العقل الذي لم يكن يخطر مرة في باله إمكانية تزويج بنت قاصر بعد خطفها، هو نفسه العقل الذي بات يضغط من اجل تحقيق هذه الإمكانية. تغير الناس، وصاروا غارقين في مفاهيم وقوانين الإسلام السياسي، التي لا تعترف لا بخطف ولا باغتصاب؛ واحدة من هذه القوانين تطبيق الشريعة، أي تفوّق قوانين الشريعة الإسلامية على قوانين مدنية لم تنْوجد أصلا لأن هذه الحالات كانت نادرة، ولكن فكرتها تتغلغل الآن في أعمق النسيج العقلي للناس.

بمعنى آخر، “تطوَّر” النظام الطائفي اللبناني إلى أقصى ما يمكنه من التطور، وبات قادرا، من اجل البقاء، أن يتعايش مع الإسلام السياسي، بل انه ينسحب من أمامه؛ أن يخوض هذا النظام، لعبة “الطوائف المؤمنة” العائدة، بعد ضلال، إلى الشريعة الحنيفة.

وأبلغ تعبير عن هذه الحالة، تعليق المحامية بشرى الخليل، التي أخذت على عاتقها استعادة فاطمة الى أهلها،  فقالت: “إن القانون عاجز عن الحكم في قضية مشابهة، لأن المسألة من إختصاص الشرع الذي يربط زواج القاصر (دون 18 عاماً) بموافقة ولي أمرها”؛ وتضيف “إن المشكلة الأساس انه لا عقوبة جزائية على خاطف فتاة وإنما غرامة بسيطة”.

            السؤال الدائم في حالات كهذه : إذا كانت فاطمة ابنة واحد من أولئك “الكبار”، أو حتى الأصغر منهم شأنا بقليل، هل كانت أصلاً تحصل لها قصة كهذه؟ هل كان والدها سيذعن وهو رافض وغاضب؟ طبعا لا. ومع ذلك، لم يقصر والد فاطمة، قاوم وسعى، ولم يفلح. ففوق انه فقير، يواجه بمفرده قوة عارية وضعت نفسها في خدمة الشريعة. والإثنتان، القوة الصرفة والشريعة، تستبيحان حرية الأفراد وكرامتهم وحياتهم.

السابق
سوء النوم قد يؤدي إلى الأورام السرطانية
التالي
حرب: موقف السعودية أنموذج عملي لمكافحة الإرهاب