«ليلة القدر» وحصة الجنرال عون

عبقرية تأليف الحكومات في لبنان تحتاج إلى القليل من الذكاء والكثير من الدهاء.
الدستور نص لا يطاع. هو بمثابة المخرج. يتم اللجوء إليه، حفاظاً للشكل فقط. الدستور في لبنان لا يأمر، بل يؤمر فيطيع. ولا مرة خان الدستور الطبقة السياسية، أطاعها وتكفل بأن يكون ليناً، مطواعاً ومحترماً لإرادة الصفقة… الدستور ملعب السياسيين، وهم يجيدون التصويب وتحقيق الأهداف… لا نحتاج إلى أدلة. انتخاب الرؤساء وتأليف الحكومات وإجراء الانتخابات، وتحديد السياسات، واحترام الصلاحيات شهادة سوء سلوك واضحة… دستورنا راق جداً ومتقدم علينا، لكنه لا يناسب دولتنا ومجتمعنا وثقافتنا ومذاهبنا السياسية والدينية وطبقتنا السياسية وحاضنتها العشائرية.
اتفاق الطائف ينص ولا يطاع. غريب هذا التمسك باتفاق، دفعنا ثمنه دماء اللبنانيين، لا يطبقه أصحابه. خذوا مثلاً: «لا شرعية تناقض العيش المشترك»، فكل ما يناقض العيش المشترك يتمتع بشرعية، تتفوق على الشرعية الدستورية والميثاقية. «العيش المشترك» اللبناني، مذبحة مشرَّعة، يتساقط فيها اللبنانيون بالعشرات. ليس لدينا من «العيش المشترك»، غير «الحقد المشترك»، و«النبذ المشترك» و«التطاعن المشترك»، و«الخيانات المشتركة»، وإلا فكيف نفسر انعدام الحوار، بين قبائل «العيش المشترك»؟
الدستور والميثاق، لا يعوَّل عليهما في تأليف الحكومات، لا يُستبقى منهما، غير مبدأ المناصفة المزغول، ومبدأ المحاصصة المتنازع عليه، والشكل الضروري لإسباغ الشرعية على الصفقة.
تسعة أشهر بلا حكومة، وفجأة، هبط الوحي في «ليلة قدر» عربية وإقليمية ودولية، ولأسباب لم يفصح عنها بعد، وإن كنا نخمِّن ونظن ونفهم ونتفهَّم ونسخر من أنفسنا ونحط من مستوانا. حضر الوحي، وأُمِرَ «المؤمنون» المعنيون بتخطي الحواجز، فتخطوها بمهارة، واجتياز الخنادق، فردموها بسرعة، وتحليل المحرّمات، فعفوا عن فاعليها. وبسرعة غير مسبوقة سقطت الاعتراضات الجازمة على قضايا كبرى، كنا نظن أن حلَّها لن يحين إلا عندما «تأتي الساعة»… اختفت مطالب «مقدسة» ومبادئ «سامية» ومخاوف «عظيمة». لم يعد سلاح المقاومة عائقاً، ما عادت «المحكمة» حجر عثرة، وحصل التغاضي على الاشتراك في الحرب السورية، وتأجلت «الثلاثية» المصون، وحصل التنازل عن «الثلث» المعطل، وهو ثلث ضامن لعدم وقوع خيانات… كل هذه القضايا ذات الطابع الاقليمي والدولي المستعصية، تأجَّلت، وفتحت الطريق لتأليف حكومة باتت سهلة المنال والتحقيق، لولا…
هذه العبقرية، التي جاءتنا من الخارج، كانت بحاجة إلى قليل جداً من الذكاء، والكثير من الدهاء واحترام الموضوعية وطبيعة مكونات التجمعات والقوى اللبنانية، وأبرزها، قوة «التيار الوطني» بقيادة الجنرال ميشال عون.
من هو هذا الذكي الذي أهمل درساً مهماً من دروس الأزمات في لبنان؟ كيف يذهب إلى تأليف حكومة من دون أن يلتفت إلى من يستعمل حق النقض على الصغيرة والكبيرة، ولا يتراجع بسهولة، وأحياناً لا يتراجع بالمرة. فهو رجل، عناده سياسته.
العبقرية التي أوحت للبنانيين المبادرة لتأليف حكومة، هدفت إلى ملء الفراغ المخيف، وعدم ترك السلطة بيد حكومة تشكل فريقاً وتستثني فريقاً وازناً، هو الفريق السني بطليعته «المستقبل» ورديفه «14 آذار» ومن تبقى منه.
الوحي، أجّل الاشتباك الكبير، أو منع الانزلاق إلى مزيد من الصراع غير المنضبط بين «السنية السياسية» وبيئتها الشعبية، و«الشيعية السياسية» وبيئتها الحاضنة، ما يشكل «مشروع حرب أهلية» بالتقسيط، تدخل لبنان في نفقي «العراقية» و«السورية». انها لحظة وحي مباركة لا أكثر. فكيف لا يستفاد منها لإدخال الجميع إلى عنايتها؟
الفريق السني مشتبك عربيا وإقليميا ودوليا. هو مكوِّن محلي في حلف أو سياسات، تناقض الفريق الشيعي المشتبك بدوره، عربيا وإقليميا ودوليا، والذي ينتسب إلى حلف وسياسات مرفوضة من «سنة الاعتدال العربي» من المحيط إلى الخليج.
الجنرال ميشال عون، ليس عنده قضية إقليمية أو عربية أو دولية. لديه ميول أو سياسات موقتة، ولكنه ليس منخرطاً في محور ولا ينتسب إلى معسكر. «المسيحية المشرقية»، مشروع لمسيحيي لبنان، لينتظم انتماؤهم إلى لبنان وإلى محيطهم فلا يغتربون عن القضايا العربية. وهي ليست أكثر من دعوة، ولا تبلغ السياسة… فلا حماية للجنرال، من أي دولة أو نظام، بينما السنة في حماية والشيعة كذلك.
هَمُّ الجنرال، هو «لبنان أولاً». طموحه داخل حدوده. وطموحه هذا يمر، من خلال مارونيته ومسيحيته. (علمانيته مزحة سياسية لا تثير الابتسام). لا امتداد إقليمياً أو دولياً للجنرال، وعليه، فهو ماروني مسيحي لبناني ونقطة انتهى. لا يُسأل عن عروبته أو قوميته أو… إنه هنا، وهنا فقط.. وَصَدف أنه يمثل ثقلاً سياسياً وشعبياً ونيابياً، لا يمكن الاستخفاف به، وأنه من ضمن هذا التمثيل، صاحب «حق طائفي» أقره اتفاق الطائف. فلماذا أهمل «عبقري» التأليف، هذا الفريق الوازن، وتعامل معه على أنه تابع ويمكن فرض صيغة حكومية، لا تأخذ بعين الاعتبار مطالبه القليلة جداً: وزارة طاقة أو أي وزارة «سيادية». إن مطلبه «العظيم»، لا يتعدى أن يكون ممثلاً بحجمه ووزنه في حكومة. وإذا قيست مطالبه بالقضايا الكبرى التي حكمت العلاقة بين المكونين السني والشيعي، بدت كأنها نقطة في بحر… طموح عون «الكبير»، صغير جداً، إزاء طموحات الفريقين الكبيرين المنخرطين في صراعات إقليمية ودولية.
فليأخذ الجنرال حصته المسيحية، وهذا «حق طائفي» له. من شرب البحر لا يغص بالساقية. ومن قبل بأن يجلس إلى طاولة الحكومة مع «أعدائه»، لا يتوقف أبداً، أمام مطلب ضحل جداً، وهو توزير الجنرال بصهره في وزارة اشتهاها آخرون، لدسامتها الراهنة والمستقبلية.
قليل من الذكاء والدهاء، يفترض أن تتألف الحكومة من قوى الأمر الواقع السياسية والطائفية والمذهبية، وذلك، ليس بهدف إنقاذ البلد، إذ ان مهمة الإنقاذ فوق طاقة القوى مجتمعة، وإنما بهدف ملء فراغ موقت، ومنع انفجار يتنقل، والتحضير لتفاهمات صغيرة، حول قضايا كبيرة جداً ليست من اختصاصنا.
ليس في الأفق غير لحظة عابرة، لتسوية هشة، توفر للبنانيين لحظة تفاؤل، بأن موتهم غداً، ليس مؤكداً، وأنهم لن يذهبوا طعماً لانفجارات وسيارات مفخخة.
ليس في الأفق، إذا تألفت حكومة، أي حظ لإصلاح أو تغيير أو قيام دولة أو محاربة فساد، أو تنمية أو وقف الهجرة أو… هذه أضغاث أحلام وكوابيس سياسية. كل ما يهم اللبنانيين، أن يكون موتهم أقل فداحة، وأن يكون انعكاس الصراعات الاقليمية على الساحة اللبنانية، أقل بكثير من «داعش» و«نصرة»، وأقل حدّة من أصوات مشايخ الدين ومشايخ السياسة الذين تفوقوا في بث الأحقاد بين «المؤمنين» بأن لا إله…
إذا لم يكن ذلك كذلك، فمن المحتمل أن يكون الوحي قد أصيب بوعكة، بعد فشل «جنيف 2» وعودة الحروب كلها بضراوة إلى سوريا.

السابق
نسيب لحود… المحترم
التالي
فتنة لن تنام قريباً