المطلوب من الجيش…

أيام قليلة وتعود الحماوة مجدداً انطلاقاً من التطورات الميدانية السورية. ليس فقط لأنّ مؤتمر «جنيف ـ 2» انتهى الى لا شيء سوى جلوس الوفدين قبالة بعضهما البعض، وهو ما كان متوقعاً من الاساس، وليس لأنّ الايام الفاصلة عن «جنيف ـ 3» تحتاج الى جديد ميداني يفرض نفسه على الطاولة، بل ايضاً لأنّ المخاطر الكبرى جرّاء المجموعات المتطرفة في تركيز حضورها لا تحتمل التأجيل، وهو ما تشجعه الادارة الاميركية.

فقريباً جداً سيباشر الجيش السوري، تدعمه مجموعات من “حزب الله”، المرحلة الاخيرة من معركة يبرود للاستيلاء عليها بعدما تقلّص عدد المسلحين فيها من 2000 الى 800 عنصر وسط معنويات متدنية بسبب الحصار المفروض عليهم والظروف القتالية الصعبة.
ومع هذه المعركة من المفترض ان تصبح منطقة القلمون في قبضة الجيش السوري النظامي باستثناء بعض الجيوب، ما يعني أيضاً تأمين التواصل الكامل بين دمشق والساحل السوري، وإغلاق كل الممرات ما بين البقاع الشمالي والاراضي السورية. وهذا سيؤدي ايضاً الى انتقال مزيد من العناصر المتطرفة الى الداخل اللبناني انطلاقاً من عرسال، وهنا تكمن الخطورة بالنسبة الى لبنان.
صحيح انّ حال الاحتقان الداخلي سجلت تراجعاً لافتاً إثر الاعلان عن قبول تيار “المستقبل” و”حزب الله” بحكومة سياسية جامعة، لكن هذه الخطوة لم تعد كافية لتحصين الاستقرار الداخلي. فالخلايا المرتبطة بـ”القاعدة” بات حضورها قوياً في لبنان، وهي منتشرة على مساحته الجغرافية الكاملة وتمتلك الامكانات المطلوبة لتتحرّك وتضرب.
ولأنه بات معروفاً وجود قرار دولي كبير بالقضاء على هذه الخلايا التي باتت متجذرة في لبنان بسبب الانقسام السياسي الحاد، فإنها قررت المباشرة بهجومها الوقائي، أولاً من خلال الاعلان رسمياً عن حضورها ونشاطها في لبنان، وثانياً بالتركيز على الجيش واستهدافه كونه الادارة الوحيدة القادرة على تنظيف الساحة اللبنانية، وثالثاً بالاستمرار في استهداف المناطق الشيعية للإبقاء على حال الاحتقان السني ـ الشيعي.
ففي جرود عرسال أولاً، حيث القواعد القوية لهذه المجموعات، ستبدو الأمور خطيرة. صحيح انّ الجيش سيتولى مهمة منع حصول أيّ احتكاكات طابعها مذهبي، لكن هذا لا يبدو كافياً مع وجود “شبهة” لهذه المجموعات للتواصل مع عكار ومنها مع طرابلس، وثانياً للتصادم مع المناطق الشيعية بهدف اكتسابها “شرعية” الوجود وتأييد الشارع السني.
وهنالك مَن يعتقد انّ النظام السوري، والذي عاد واكتسب مباركة “ضمنية” من العواصم الغربية لدوره وقدرته في القضاء على هذه المجموعات، قد يجد الفرصة سانحة ليقدّم “خدماته” في جرود عرسال، ولو من خلال المساندة الجوية، والتي يعطي نماذج عنها بين فترة وأخرى.
أمّا الجيش اللبناني فأمامه مهمة صعبة وطويلة ودامية بهدف استعادة مسؤولية الإمساك بكل الارض اللبنانية، ولهذه المسألة حساباتها المتأنية. من هنا كان لا بد من السير في حكومة سياسية جامعة، خصوصاً بين المكونَين السني والشيعي بهدف تنفيس حال التشنّج السياسي الحاصل، فيما خلايا “القاعدة” ستحاول إجهاض ذلك من خلال استمرار عمليات استهداف المناطق الشيعية.
وهنالك مَن يتحدث عن ولادة قريبة للحكومة السياسية الجامعة كسباً للوقت، ولو من خلال طرحها من دون أن تحظى بالموافقة المسبقة، صحيح انّ البعض يحسب للاستحقاق الرئاسي من خلال هذه الحكومة، لكن العنوان الامني يبقى هو الاساس. كذلك كان لا بد من إعادة تحضير الجيش ليكون ملائماً أفضل لهذه المهمة.
وخلافاً لما يعتقده البعض، فإنّ هذه الخطة كان قد بوشر الاعداد لها منذ فترة غير قصيرة. يومها، اهتمت واشنطن مباشرة، ومرة عبر الامم المتحدة، بدرس متطلبات الجيش ليستطيع خوض معركة ناجحة في وجه الارهاب، وقد سجلت الدوائر العسكرية الاميركية بكثير من الاعجاب المواجهات التي خاضها الجيش في طرابلس وعكار وعبرا وغيرها، وسط حملات سياسية جائرة في حقه، ولكن من دون تسجيل أيّ حال هروب او عصيان أو ما شابه، لا بل فإنّ شهداء كثر سقطوا من كل الطوائف، بما فيها الطائفة السنية، كما انّ اللون الطاغي لقيادة اللواء المنتشر في طرابلس، اضافة الى تكوين عناصره، هو من الطائفة السنية. وهو ما يعني، بالنسبة الى المراقبين العسكريين الغربيين، انّ اللحمة قوية داخل المؤسسة العسكرية، وهذه نقطة اساسية بالنسبة اليهم.
اضافة الى ذلك، فإنّ متوسط عمر الضباط والعسكريين اصبح فتياً اكثر. فبعدما كان متوسط العمر 36 سنة، أصبح الآن يقارب الـ24 سنة، ما يعني ان الوحدات القتالية اصبحت هي الطاغية. وقيل ان التقارير التي وصلت الى وزارة الدفاع الاميركية أشارت الى حاجة الجيش اللبناني الى اربعة مليارات ونصف مليار دولار لتجهيزه بالنحو المناسب والاسلحة والمعدات النوعية القادرة على محاربة الخلايا الارهابية والقضاء عليها، اضافة الى مهمة حماية الحدود البرية والبحرية، خصوصاً مع اكتشاف الثروة النفطية البحرية.
وتردد انّ الامم المتحدة، وفي تواصلها مع السلطات اللبنانية، طلبت ان تتولى الحكومة اللبنانية تأمين مليار ونصف مليار دولار وتؤمن واشنطن المبلغ المتبقي. وبالفعل أقرّت الحكومة اللبنانية هذا المبلغ وعلى خمس سنوات، لتظهر بعد ذلك الهبة السعودية والبالغة 3 مليارات دولار.
وهذا التجهيز سيشمل عتاداً عسكرياً جديداً، إضافة الى زوارق بحرية متطورة ومروحيات عسكرية قادرة على تولي مهمات النقل السريع لوحدات النخبة وعمليات القصف الجوي. كذلك سيطاول التحديث مديرية المخابرات من خلال تزويدها معدات متطورة وأجهزة تنصّت على غرار ما حصل مع فرع المعلومات بدءاً من العام 2005، ما جعله جهازاً قوياً وقادراً.

وكل ذلك يعني مسألتين أساسيتين:
الاولى، أنّ الحرب على الارهاب في لبنان بدأت فعلياً وهي مطلب دولي كبير وحاسم وسيكون المهمة الكبرى للجيش خلال المرحلة المقبلة.
والثانية، انّ هذه الحرب ستكون طويلة وصعبة وسيدفع المجتمع اللبناني من أثمانها.
وربما يبقى هنالك استنتاج ثالث لا بد من أخذه في الحسبان ويرتبط بالنجاح الذي من المفترض ان يحققه الجيش بنتيجة هذه الحرب، وهو ما سيدفعه ليكون قدوة لا بد من تعميمها على الدول الاخرى القريبة، والتي باشرت في استنباط التجربة السياسية اللبنانية لجهة طريقة تقاسُم السلطة بين المكوّنات الطائفية.

السابق
فتنة لن تنام قريباً
التالي
إيران وأميركا… حوار بلغات أربع