المسيحيون والنفط

الإنفتاح على نظريات جديدة تتصِل بدور المسيحيّين مسألة مطلوبة ويجب تشجيعها، لأنه لا يوجد شيء جامد في التاريخ، والحياة تتطور باستمرار، وعلى المسيحيين وغيرهم مواكبتها عبر إدخال التعديلات اللازمة على طبيعة أدوارهم وفقاً للتطورات التي تكون قد استجدّت.

ومن هنا لا يفترض الاستخفاف بنظرية جبران باسيل الجديدة التي يمكن أن تكون استشرافية، والتي اعتبر فيها أن “حقيبة النفط هي الحقيبة الاستراتيجية للبنان ولمسيحيّيه تحديداً، وفيها ضمانة جديدة مستحدثة لهم”.

ولكن، قبل مناقشة مضمون هذه النظرية الغريبة والعجيبة وتشريحها، لا بد من التساؤل في الشكل أوّلاً: كيف تستقيم موافقته على المداورة، التي يعترض عليها فقط كونها لأشهر عدة، طالما يعتبر حقيبة النفط ضمانة جديدة للمسيحيّين؟ إذ إنه في هذه الحال يجب أن يكون ضد المداورة أو المطالبة، أقلّه بتثبيت حقيبة النفط في صُلب حصة المسيحيين كرئاسة الجمهورية وقيادة الجيش ومديرية المخابرات…

وفي الشكل أيضاً كان الأحرى بباسيل الدفاع عن حقوق المسيحيين في طريقة تأليف الحكومة التي تمّ تغييب “التيار الوطني الحر” عن كل المفاوضات السياسية التي رافقتها، بدلاً من الدفاع عن حقيبة وزارية، على أهميّتها، لأنّ الشراكة تتجسّد بصناعة القرار السياسي على مستوى البلد، وليس بترؤس حقائب تقنية وظيفية إجرائية تعويضية، والدليل أن “حزب الله” لم يتوقف يوماً أمام نوعية الحقائب التي تُسند إليه كون أولويته تكمن في التحكّم بمفاصل القرار الوطني.

وأمّا في مضمون النظرية “الاستشرافية”، فلا بد من التوقّف أمام الآتي:

أولاً، أثبتت الحرب الأهلية أن كل الضمانات التي اعتبرها المسيحيون ضمانة لوجودهم سقطت مع أوّل اختبار عسكري وانفصالي بين اللبنانيين، على رغم كل الصلاحيات التي كانت بيَد رئيس الجمهورية والمؤسسات المَمسوكة من قبل المسيحيين في الجمهورية الأولى.

ثانياً، الهدف من استحداث ضمانة جديدة للمسيحيين، كما قال باسيل عن النفط، تحوير أنظار المسيحيين للمرة الأولى في تاريخهم عن المعركة المتصِلة بهوية لبنان وسيادته ودوره، ودفعهم إلى التلهّي بمعارك جانبية لا تقدّم ولا تؤخر في رسالتهم القائمة على فكرة إنجاح التجربة اللبنانية.

ثالثاً، لا قيمة لأيّ وزارة أو أيّ موقع في بلد مُحتلّ ودولة فاقدة لقرارها واستقرارها، لا بل يتحوّل هذا الموقع أو تلك الوزارة إلى مادة ابتزاز لتعطيل هذا المرفق أو إدارته بطريقة استنسابية وملتوية.

رابعاً، إنّ ربط دور المسيحيين بحقيبة وزارية يشكّل تحجيماً وتقزيماً لدورهم من جماعة ساهمت في تأسيس لبنان انطلاقاً من إيمانها بالحرية والديموقراطية والتعددية إلى جماعة أولويتها المحاصصة والبترو-دولار.

خامساً، لم يُبَدِّ المسيحيون في تاريخهم القيمة المضافة لدورهم التي تجسدت في قطاعات التعليم والاستشفاء والثقافة والاقتصاد والمال والسياحة على أولوية أن يكونوا أسياد قرارهم. فالفصل بالنسبة إليهم بين الواقعين الاقتصادي والسيادي لم يطرح يوماً، لا بل اعتبروا دوماً أن السيادة وحدها تشكّل المدخل للاستقرار النقدي والمالي…

سادساً، الحقيبة الميثاقية بامتياز ليست النفط بطبيعة الحال، كما أكّد باسيل، إنما توافق اللبنانيين على احترام المشترك بين بعضهم والذي يتمثّل بالدولة والدستور وميثاق العيش المشترك والقرارات الدولية، هذا المشترك الذي أطاحَه حليفه “حزب الله” من دون أن يرفّ للتيّار جفن، لا بل كان وما زال يعمل على تغطيته.

سابعاً، حاول باسيل وضع التنازع على الطاقة في إطار استهداف المسيحيين، وبمعزل عن أنّ استهدافهم من باب الطاقة هو “آخِر الدنِي”، إلّا أن المسيحي في لبنان لم يُستهدف يوماً لأنه مسيحي، بل استهدف دوماً لدوره في الدفاع عن لبنان ورفض الانصياع للوصايات الخارجية، أكانت سورية أو إيرانية.

ثامناً، العلاقات الدولية التي يتباكى عليها باسيل لم يسحبها المسلم من المسيحي في لبنان، بل سحبها النظام السوري الذي تحوّل اليوم إلى حليف ونصير لـ”التيار الوطني الحر”، والهدف مِن سحبها كان إخفاء الصوت المسيحي المدافِع في المنتديات الدولية عن لبنان وسيادته، وضرب المظلة الدولية الراعية للبنان.

تاسعاً، تعامل باسيل مع حقيبة النفط على طريقة صناديق الهدر التي وزّعت إبّان الوصاية السورية على بعض زعماء الأحزاب، حيث وضعها في السياق “الاقتصادي المُتناقِص على المسيحيين منذ 25 سنة، والإنماء الغائب عنهم منذ 25 سنة”، وكأنّ عائدات هذه الوزارة هي للمسيحيين وليست للبنان بكلّ طوائفه ومناطقه.

عاشراً، المسيحيون مؤتمنون على فكرة لبنان وسيادته واستقلاله وحرية جماعاته وأفراده وحقوقهم، وقبل إنقاذ الفكرة اللبنانية من المخطط المتواصل لاغتيالها من قبل الفريق الذي يريد إبقاء لبنان ساحة والدولة مُستباحة، فمن العَبث البحث عن موارد نفطية أو نووية معرّضة حكماً للنهب لمصالح غير لبنانية في دولة عاجزة عن بسط سلطتها ونفوذها ومؤسسات مغيّبة وغير قادرة على المساءلة والمحاسبة وشعب مخطوف ومهدد يومياً بلقمة عيشه ومستقبل أبنائه…

إنّ أغرب نظرية كان يمكن أن تطرح ربط مستقبل المسيحيين بالنفط، هذه النظرية التي أطاحَت كلّ ما راكمَته الجماعة المسيحية من قِيَم فكرية وثقافية وتقدمية ونضالية حَوّلتها إلى جماعة مؤسسة لبلد يعيش فيه المسيحي والمسلم جنباً إلى جنب في نظام سياسي مَدنِي تَشارُكي، ولو أنّ اهتمامات المسيحيين كانت نفطية من دون الأبعاد القيمية المتصِلة بالحريات على أنواعها، لكانوا في أحسن الأحوال قوّة اقتصادية في نظام إسلامي يقتصر دورهم على تنفيذ السياسات التقنية والإملاءات الإدارية التي تُطلَب منهم.

السابق
الحكومة ستشكّل وعون سيربح… مجدّداً
التالي
الجمهورية: حزب الله لم يفلح بالتوصل الى معادلة توفّر “تقليعة” الحكومة