وباء اسمه النرجسية

من فيلم زا ماسك لجيم كاري

في بداية النهضة الأوروبية، وهي مهد تطورات لاحقة بلغت ذروتها الآن مع التكنولوجيا، كان أبطال النرجسية هم قلة مختارة بفعل حظ أو ولادة أو موهبة خارقة.

الفن التشكيلي يرسم وقتها وينحت آلهة الإغريق والأنبياء والقديسين، الملوك والأباطرة، وكل من ينتسب إليهم بقرابة دم أو نسب أو عشق. هؤلاء القليلو العدد هم المحور، فيما الباقون، الأكثرية، “كومبارس”. التمتع بجمالية هذه الفنون، كأبطالها او مستهلكيها، يقتصر على هذه القلة الضئيلة، صاحبة امتيازات موروثة.

في عالم القصص، أيضاً، تقرأ عن فتوحات العظماء والعباقرة والأفذاذ والأنبياء. وقراء هذه القصص أقل عدداً من المستمتعين بمشاهد الفنون التشكيلية. الأمية شائعة، ومن يكتب، أو من يقرأ ما يُكتب هو، أيضاً من القلة، صاحبة الشأن العظيم. ولكن في الحالتين، في الرسم وفي القصة، وربما في مجالات أخرى، كانت عقدة التفوق هي العقدة البديهية، “النائمة”، والتي تستيقظ بأبهى حلاها عندما يلتقي صاحبها بواحد من أولئك البؤساء الذين لم يروا في حياتهم لوحة فنية ولا قرأوا كتاباً. كانت هناك نرجسية، ولكنها محصورة بنخبة ، لأفرادها حق شبه طبيعي، شبه منطقي، بأن يتصورا أنفسهم شموساً ساطعة على كوكب الأرض.

من تلك العصور وحتى الآن حصلت تطورات كثيرة. أهمها الفكرة الديموقراطية-الاشتراكية الداعية الى حق الجميع بالكتابة والقراءة والترفيه والشراء… الخ. بعدها بزمن قصير، بلغت الثورة التكنولوجية درجة إضافية من الإبداع، مع اختراعها شبكات التواصل الإجتماعي، بأشرطتها، “يوتيوب”، وتعليقاتها وصورها الفورية ذاتية (selfie)؛ وبلمحة بصر، أدمن مئات الملايين من البشر على هذه الشبكات، يجتمعون، يسخرون، يتأملون، يناقشون، يروّجون، يلتقطون، يحملون…. أشياء عن أنفسهم، ويومياتهم وأشكالهم وأفراحهم أو أحزانهم ومفاتنهم…مئات الملايين داخل منازل من المرايا، يكادون كلهم ينشغلون بسُرَّتهم، وذلك استجابة لغواية الإجابة على السؤال “ماذا في بالِك؟”، أو أي حافز آخر… لهم “حرية” مطلقة بملء حائطهم بما يحلو لهم من أمور كلمات عبارات، وبالأسلوب واللغة التي يرونهما معبرين عن ذواتهم.

وإذا لاحظتَ ما يجري بالتزامن مع هذا التوريط النفسي (الادمان) على الشبكات التواصل وملحقاتها، من نجاح كاسح تلاقيه المشاهير، “الفنية” خصوصاً، بأخبارها وتعليقاتهم، وصورها، وشرائطها، وهي كلها تجمع بين الجنس والفضائح وخلع المزيد… لو لاحظتَ ذلك، فسوف تفهم بأن شبكات التواصل تلتهم ثقافة “التراش” هذه، تترجمها الى لغتها وذاتيتها وفرديتها، ومختلف الأخبار الصغيرة السخيفة المتعلقة بها؛ فيكون “أبطالها” المحتفى بهم، هم أصحاب “الأتباع” أو “المحبَّين” الأكثر عدداً، أو الصورة الأكثر حضوراً. هذا الإغراء دفع بالعديد من أعضاء هذه الشبكات أن يتخلوا عن وقار عُرفوا به، لينغمسوا في اللعبة ويربحوا… “المحبة” أو “الأتباع”.

لكن المهم من كل هذا ان هذه الممارسة النازلة على ثقافتنا بسرعة المركب الفضائي، أنتجت نرجسيات، لم تكن لتصدق ضخامتها وأسبابها قبل اختراع الشبكات. تفاجأ بالإنتشار الهائل لهذا العيب النفسي بين أناس انجازهم الوحيد انهم أصحاب لايكات على أفلاهم، “يوتيوباتهم”، أو تعليقاتهم أو صورهم. فلا تستطيع بعد ذلك غير المقارنة: بين عصر اقتصرت فيها النرجسية على قلة من النخبة، وعصر آخر، “دمقرط” النرجسية لتصبح في متناول الجميع، ولكل درجة او حافز، بحسب الاستعداد النفسي. لكن النتيجة انك تتنزه في الشبكة كأنك في مزرعة من الطواويس، بفضل فكرة الديموقراطية التي أعطت للجميع الحق بالتعبير عن نفسه بـ”حرية”.هذا الحق للجميع ولّد حالات غرور قاتل، أقل وباء ديموقراطي فتّاك.

ما يجعل المصاب به لا ينتبه، أو لا يريد ان ينتبه الى ان خالق مجال غروره هذا، يراقبه، وأنه يفرز ويحلل ويسرّب كل “معلومة” يعرضها صاحبنا على “حسابه”، وان إدارة الشبكات تمارس الرقابة على “مصنفاتها”… الخ.

لو انتبه، ذاك المُصاب، لتذكّر تلك الشخصية الفذة في فيلم “ترومان شو” للأميركي بيتر وير، بطولة جيم كاري؛ والفيلم يحكي قصة ترومن بوبنك، الذي عاش منذ ولادته على خشبة برنامج “رياليتي”، كل من يحيطه ممثلون، يديرهم منتج عملاق، تمكّن من شدّ أنظار كل الأميركيين إلى الشاشة، ليتابعوا تفاصيل التفاصيل من حياته. والأجمل في هذه القصة ان بطلها لم يكن نرجسياً على الاطلاق، رغم محوريته في تمثيلية حياته. “تواضعه” بالذات هو الذي زرع بذرة الشك في عقله وفتح له طريق معرفته للحقيقة والتحرر من المصير الذي رسم المنتج كل تفاصيله الدقيقة…

السابق
ظريف يتهم اسرائيل باستخدام الملف النووي لتحوير الرأي العام
التالي
السفير: شخصيات سلفية تطالب حزب الله بمراجعة خياراته