الانترنت ورجال الدين والعقل المشلول

السؤال بسيط، والجواب أبسط.
س: هل الكلام في التشات (CHAT) حرام؟ هل الكلام مع ابن خالتي في الانترنت حرام؟ هل الكلام مع الرجال عن طريق الانترنت أو التليفون أو .. حرام؟
ج: بشكل عام التكلم مع الأجنبي ـ سواء كان حضورياً أو عن طريق التلفون أو الانترنت ـ إذا لم يكن بقصد التلذذ والريبة ولا موجباً لترتب المفسدة فلا بأس فيه.
سؤال أرسلته شابة إلى موقع مكتب المرشد الأعلى للنظام الإيراني، آية الله خامنئي علی الانترنت، طالبة فتوى دينية ورأياً فقهياً في محادثتها مع رجل عبر الانترنت. نالت الشابة جواباً شافياً على سؤال بديهي.

يبدو أن الجواب، على وضوحه وتوفره باللغة العربية على الموقع، لم يكن واضحاً لكثير من المواقع الإلكترونية التي تناقلته معكوساً وأكدت أن “خامنئي أصدر فتوى منع فيها “التشات” بين المرأة والرجل غير المحرم لها، وأرجع هذه الفتوى إلى ما اعتبره “المفاسد الاجتماعية المترتبة على التشات”.

يسهل الانترنت الالتباس أو حتى النقل المغلوط لأي معلومة، وطبعا يعتبر هذا العالم الافتراضي بقعة خصبة لكثير من الفتاوى الغريبة والمشوهة والمفبركة.
لكن موضوع الانترنت والدين، لا ينحصر بتاتاً بدقة نقل المعلومة أو الفتوى، بل قد يكون النقاش الأصعب هو في دخول الدين في أبسط تصرفات المرء اليومية التي لا تحتاج إلى الكثير من البحث والتدقيق، ويمكن للمرء أن يقرأ أعجب الأسئلة والفتاوى على مواقع التواصل الإجتماعي أو حتى يسمعها في برامج تلفزيونية وإذاعية.

تتفرع هذه لتتناول مواضيع قد لا يصدق الفرد أن هناك فعلاً من “عطّل” عقله تماماً وتعذر عليه ايجاد الجواب الصحيح لتساؤلات بسيطة، لا تحتاج إلى رجل دين أو فقيه، بل اختار الخضوع بشكل مطلق لرجل الدين الذي من المفترض أن يفتي بأمور ملتبسة على الرعية او المؤمنين. أمور أكثر تعقيداً من مواضيع مثل الاشتراك في مسابقات برامج التلفزيونية، تحريم مشاهدة التلفزيون، تحريم الاختلاء باللابتوب أو بالهاتف الذكي، تحريم خلع الحجاب عبر اتصال “سكايب” بين صديقتين خوفاً من التجسس، تحريم دخول الحمام من دون تلاوة الدعاء والخروج منه من دون دعاء آخر.. الخ.

يُذهل المرء لتفاهة الأسئلة الدينية التي تطغى على البرامج التلفزيونية الدينية، وحتى على المحتوى العربي لمعظم المواقع الدينية المتخصصة، لدرجة يتمنى فيه الفرد لو أن الانترنت لم يخترع ولم يفسح المجال لإطلاق هذه الفتاوى ولم تنتشر هذه المعرفة “الثمينة” جداً لدرجة أن أي خطأ فيها قد يهز الأمة ويهزمها. ومن نافل القول إن الكثير من الفتاوى أطلقت بغطاء ولغايات سياسية، بينها تحريم التظاهر وتحليل التوريث السياسي، وتحريم التصويت لجهة سياسية مغايرة.

طبعاً ليس السائل وحده المسؤول عن هذا العالم الافتراضي الغارق في الإيمان الشكلي والسطحي، بل أيضاً رجل الدين والمؤسسات الإعلامية والمواقع الإلكترونية التي سخّرت التكنولوجيا وعالم التواصل كمساحة للتبشير، وفي أحيان كثيرة شغلت الناس بقضايا ثانوية جداً لا يُفترض أن تأخذ هذا الحيز من يومياتنا وتفكيرنا.

وفي أحيان كثيرة حللّ رجال الدين لأنفسهم ما مُنع عن الآخرين، أهمها حرية التواصل، وإيران في هذه الحالة نموذج بارز، إذ يستخدم خامنئي نفسه مواقع التواصل الإجتماعية الممنوعة في البلاد على عامة الشعب، وذلك بحجة أن المسؤولين ورجال الدين يستخدمون الانترنت والتقنية لخدمة المجتمع ونشر الدعوة بين الناس.

وطبعاً المنع أيضاً مطبق في كثير من الدول العربية، وإن بصيغ أخرى، إذ تسمح بإستخدام الإنترنت.. لكن تُبقي عين الرقيب ساهرة على كل تغريدة وتعليق، وتعاقب مَن يخرج بها عن المسموح قوله، ومَن يمسّ بالذات الأميرية.. ويحاول كل هؤلاء، في الوقت عينه، تمرير منعهم الانترنت الجزئي أو الكلي بأنه منتج غربي ويسهل التجسس على الأسرار القومية للدول.. لكننا أيضاً نجدهم يحاولون إيجاد توليفة ما بين هذا العالم وما بين رغبتهم في عكس صورتهم كدولة متحضرة وتستطيع تطويع التقنية لغايات وطنية وسياسية وإيمانية خاصة ولنشر أفكارهم وممارساتهم، وقد تكون أكثر الحسابات إثارة للجدل في مواقع التواصل هي تلك العائدة إلى جهات دينية وحركات سياسية متطرفة، أولها طبعا “داعش” والأسير وأمراء الجبهات والحروب.

هكذا من الغرف المغلقة، ومن قاعات دروس الدين إلى الشاشات وإلى الشبكة الواسعة، أئمة ومشايخ ومرشدات ومرشدين باتوا لا يفارقون الشاشة، وينتشرون في عالم الإنترنت لنصح المؤمنين وتسير حياتهم في ما يفعلون وعما يمتنعون.
يُسيرون حياتهم كأوصياء وكسلطة لا يمكن تخطيها ويوهمونهم بأنهم وحدهم يملكون الأجوبة الصحيحة والدقيقة، والتي توفر عليهم الوقوع في الخطأ حتى في أصغر أصغر شؤون حياتهم. أوصياء وطالبي شهرة سريعة.. مثلهم كمثل نجوم الغناء الذي يقدمون على إطلاق موقف لافت أو إرتداء ملابس صارخة للفت الأنظار.. كذلك بعض رجال الدين يعمدون إلى إطلاق فتوى نارية تنتشر في الإنترنت بسرعة البرق.. ويصبح اسمهم أشهر من أكبر نجم “بوب” عالمي.

يمارس رجال الدين، وأحياناً الدخلاء على هذا العالم، سطوتهم على “عامة الشعب” عبر الميديا والسوشال ميديا بمنطق غريب. فهم يطبقون فتاواهم وتحريمهم وتحليلهم لأمور الحياة الفعلية والواقعية والملموسة، على تلك الإفتراضية. بل ربما تصبح فتاواهم في الممنوعات على المرأة والفتاة وحتى الرجل، أشد قسوة في العالم الإفتراضي غير الملموس. وكأنهم يخشون من الأعظم فيه ومن أسراره وخفاياه.. فنسمع شيخاً يحرم دخول المرأة إلى الانترنت بالمطلق حتى في سبيل المعرفة، وآخر يحذر من نشر أي صورة، حتى صورة “مستورة” كبروفايل، لأنها تثير نظر الرجل وإضافة إلى ذلك قد يقطع الوجه عبر برنامج “فوتوشوب” ويركبه على مشاهد وأفلام تشجع على “الرذيلة”..! طبعاً يصب هذا في التهويل مما يجهلون، وفي بث الرعب في نفوس الناس من أي انفتاح أو تواصل مع الآخر.. رجلاً كان أم إمرأة، بذريعة “الحرام”.

وبهذا يعكس كثير من رجال الدين دور الإنترنت، ويقطعون أواصر التواصل ويبنون فيها عوائق اسمنتية سميكة، صلبها الفتاوى التي يشكل الخروج عنها، مدخلاً حتمياً إلى النار. ويغلق رجال الدين بهذا دور الانترنت كأحد أبرز منافذ الضرورية والحيوية في الدول القمعية أو في المجتمعات المحافظة، حيث يشكل متنفساً شبه وحيد للتواصل، لتبادل الأفكار، للتعبير عن الرأي.. وطبعاً للحب.

وما كان في إمكان الكثير من رجال الدين ممارسة سطوتهم هذه، لولا أن خلفهم ناس كثر، يُشلون تفكيرهم ويخضعون لإشارات وفتاوى وأجوبة، لا تحتاج لأكثر من تشغيل عقل منحهم إياه خالقهم وخالق رجال الدين عينهم..

وجود هذه الفئة من رجال الدين في المجتمع وفي الواقع، يجعل وجودهم غير الجديد، على الانترنت وفي الميديا، متوقعاً في هذا العالم الواسع، المتاحة أدواته للجميع، عالم من الطبيعي أن تنعكس فيه المجتمعات كما هي، بتلاوينها كافة. لكن ربما لوجودهم وفتاواهم على الانترنت ايجابية ما تتمثل في إمكان فتح النقاش حول ما ينشرون، ومعارضتهم، وخلق مساحة أوسع للصوت النقدي. الأمر الذي تصعب ممارسته في الحياة الفعلية لما قد يترتب على ذلك من عقوبات أو ضغوطات إجتماعية ودينية. الإنترنت يتسع للجميع، وإن نشر صوت التزمت، فإنه يوصل أيضاً صوت العقل.

السابق
منحط دركي لكل سيارة
التالي
مقتل ملكة جمال فنزويلا السابقة وزوجها