صدمتان

الفراغ الرئاسي في لبنان
موقف رئيس الجمهورية معطوفاً على موقف بكركي دفاعاً عن دستور الجمهورية، يمثل صدمة إيجابية في وجه «الدلع السياسي» إن لم نقل «الصلف السياسي» الذي تمارسه القوى الفاعلة ضد الدستور. فإذا كان هناك من خلل مركزي أو أساسي طبع مرحلة ما بعد الطائف في إدارة الجمهورية فهو إرساء أعراف وتقاليد فوق الدستور أو على هامشه. كثيرة هي المحطات والممارسات الانقلابية أو المتجاوزة على المرجعية الأولى في الدولة، لكنها كانت تبرّر نفسها في كل مرة بالمصلحة العليا وبالحاجة إلى تسويات تؤمّن استمرار المؤسسات والمرافق العامة. أما هذه المرة فمطالب الفرقاء تسير باتجاه تعطيل المؤسسات والمرافق العامة وشل قدرات الدولة ونشر الفراغ. فالمصلحة العليا هنا لم تعد في الرضوخ لمنطق التعطيل بل في مواجهته دون أن نبالغ طبعاً في حجم هذه المواجهة المقصورة على أوليات في تشكيل حكومة وإجراء انتخابات رئاسية.
هذه الأوليات لا تقبل التأويل والتفسير أصلاً، كما أن الادعاءات الأخرى عن إخضاع الدولة كلها لمنطق وخيارات الأطراف السياسية أياً كان شكل اقتسام الدولة وتوازناتها، هي أيضاً ليست ثقافة دستورية.
لن ندخل في تفسير الأسباب السياسية التي جعلت هذه الجهة أو تلك تضع النقاط على حروف الأزمة أو على سطرها الأخير، لكن القوى السياسية أوصلت الوضع إلى حافة الانهيار الشامل من الأخطار الاقتصادية والاجتماعية إلى الأخطار الأمنية. وهي حين كانت تتصرف، كل فئة من موقعها، وكأن لا شركاء لها في البلد، حكمت على نفسها بفقدان أي تجاوب معها، أو على الأقل استشعار الحرج من أي طرح سياسي يقفل أبواب الحل والحوار.
لم تعد المسألة النظر لأي فريق في التوجهات السياسية التي يلتزمها، بل أصبحت كذلك منظورة من خلال الحفاظ على الحد الأدنى من الوحدة الوطنية وصورة الدولة. فالمبالغات في فرض الشروط أياً كانت مصادر القوة تستخف بالآخرين وبالحاجة إلى مجتمع سياسي له ضوابطه وقواعده، وإلى مصالح اجتماعية، مهما كانت الظروف، لا تختصرها أو تلغيها الحاجات السياسية أو الإيديولوجية أو الارتباطات الإقليمية والخارجية عموماً.
فمهما تكن ردة الفعل الاعتراضية على الحكومة بوسائل ديموقراطية أو غير ديموقراطية، فالبلد لا يمكن أن يذهب إلى التفكك والانحلال لمجرد هذا النوع من الاعتراض ومن دون مقاومة بالحد الأدنى لهذا المسار.
لا أحد ينكر طبعاً حجم الصعوبات والتعقيدات التي تواجه هكذا سعي إنقاذي. لكن استنهاض اللبنانيين من حول فكرة الدولة صار مهمة حاسمة إزاء تصرف القوى السياسية وكأن الدولة ملك مؤبد لهم ولنزاعاتهم ومصالحهم من دون سائر العالمين. فهذه القوى السياسية فشلت وأعلنت عجزها في غير مناسبة ليس آخرها عدم الاتفاق على قانون انتخاب وإجراء انتخابات نيابية في موعدها. أعلنت بذلك أنها غير مؤهلة لإدارة نظام ديموقراطي برغم تشوهاته المنسوبة إلى ممارسة هذه القوى. وهي حين تمارس التعطيل إنما تكشف عن خروجها من دائرة الفعل السياسي. فخلال هذه العقود القليلة المنصرمة وقع اللبنانيون ضحية شعارات سياسية كبرى اعتقدوا أنها مفاتيح لإعادة بناء دولتهم ونهضة مجتمعهم ومعالجة مشكلاتهم. ظنوا فعلاً أن المنافسة السياسية الدائرة على ضفتي البلاد قد تحمل مضموناً أفضل لعيشهم أو تقدم نموذجاً آخر أكثر حرية وكرامة واستقلالاً. فلا هذا أو ذاك من الشعارات تحقق وتكاد كل المكتسبات المادية والمعنوية تضيع هباءً في المزيد من كبت الحرية الفعلية، وهدر الكرامة الإنسانية، وفي المزيد من التبعية، إن لم يكن لهذه الجهة فلتلك الجهة، وما الفرق الكبير في ذلك!
لا نقول إننا أمام انتفاضة مباركة ويقظة وطنية عارمة، لكننا على الأقل أمام ردة فعل قد تنجح في إحداث الصدمة المطلوبة لوقف هذا الاستهتار ولو ببعض العقول والمفاهيم وببعض الفئات من الناس أكانت في أحضان طوائفها أو خارجها.
يزيد من الحاجة إلى ذلك صدمة موجة الإرهاب والتفجير والاغتيال المستجدة التي تستهدف إلغاء الحياة السياسية ووضع لبنان في منظومة الفوضى العربية في سياق أهداف إقليمية ودولية تحاول إخماد الدلالات التاريخية الإيجابية للثورات العربية.

 

السابق
عملية اغتيال شطح يقف خلف تنفيذها جهاز كامل يعود لدولة
التالي
لبنان باتَ في خانة توجيه الرسائل