سباق أميركي على مسارَيْ إيران وعملية السلام وتقدُّم في سورية إلى وراء يُـخيَّب المعارضة

أحاط بالإدارة الأميركية هذا العام مشهدان متناقضان في سياستها الشرق الأوسطية، الأول يلخصه سباق الستة أشهر لحصد إنجازات تاريخية في الملف النووي الإيراني وفي عملية السلام، والآخر في اتجاه معاكس للانسحاب من الأزمات الداخلية في المنطقة، تتصدرها سورية والعراق مروراً بمصر ولبنان. وترسم هذه المعطيات الخطوط العريضة لاستراتيجية ادارة باراك أوباما في ولايته الثانية، وفي انتزاع فرص تاريخية لتحقيق حل الدولتين بين الفلسطينيين وإسرائيل، وإيجاد تسوية مع ايران، وفي الوقت ذاته الابتعاد عن توظيف القوة الأميركية الديبلوماسية والعسكرية في نزاعات وأزمات داخلية، ولو جاء ذلك على حساب نفوذ واشنطن.
٢٠١٣ دشن الولاية الثانية لأوباما والتي تحمل تقليدياً تركيزاً أكبر على السياسة الخارجية بسبب غياب القيود الانتخابية، والبحث عن شرعية قد تمنحها انجازات تاريخية مثل اتفاق «الجمعة العظيمة» الذي رعاه بيل كلينتون في إرلندا عام ١٩٩٨ أو زيارة ريتشارد نيكسون الصين في بداية ولايته الثانية عام ١٩٧٢.

رصيد كيري
ويتوسط السباق الى إنجازات بهذا الحجم اليوم وزير الخارجية الأميركي جون كيري، الذي يراهن رصيده لأربعة عقود في العمل السياسي بينها حملة رئاسية في ٢٠٠٤، على حصد اتفاق سلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين، كان أوباما نفسه متردداً في السعي اليه. غير أن تصميم كيري والسعي منفرداً بداية العام لاستئناف المفاوضات المباشرة، قبل الانطلاق بتسع زيارات للمنطقة هذا العام وتعيين مارتن أنديك مبعوثاً، تضعه اليوم على عتبة اصطياد اطار اتفاق منتصف الربيع المقبل.
ويسير بالتوازي مع ساعة كيري للتوفيق بين الإسرائيليين والفلسطينيين، تحرك أكثر تعقيداً باتجاه إيران. فأوباما ومنذ حملته الانتخابية في ٢٠٠٨ دعا إلى الانخراط المباشر مع القيادة في طهران، قبل أن يبعث برسالتين الى المرشد الأعلى علي خامنئي في الولاية الأولى وإطلاق مفاوضات غير مباشرة باءت بالفشل في عهد محمود أحمدي نجاد. لكن وصول حسن روحاني الى الرئاسة فتح آفاق الديبلوماسية الأميركية-الإيرانية على مصراعيها، ومهّد لاتصال تاريخي هو الأول منذ الثورة الإيرانية (١٩٧٩) بين الرئيسين الأميركي والإيراني، في ٢٧ أيلول (سبتمبر) الفائت. وقاد هذا المناخ والمفاوضات الماراثونية السرية التي أجراها الأميركيون مع طهران منذ ربيع ٢٠١٢ الى جانب تعيين جواد ظريف خريج جامعتي سان فرانسيسكو ودنفر الأميركيتين، وزيراً للخارجية، الى الاتفاق المرحلي حول الملف النووي في جنيف في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي.
ويخوض الفريق الديبلوماسي الأميركي الذي تقوده ويندي شيرمان سباقاً مع الوقت للوصول الى اتفاق دائم حول الملف النووي الإيراني قبل الصيف المقبل، أو خلال سنة في حال تجديد اتفاق جنيف. وإلى حجمه التاريخي والشرعية التي يعطيها لأوباما، سيكون من شأن أي اتفاق يوقف الساعة النووية الإيرانية من دون اللجوء الى حرب، طمأنة اسرائيل ودول المنطقة كحد أدنى، وفي حد أقصى خلط الأوراق الداخلية الإيرانية في شكل قد يمنح أوباما لحظة نيكسون مع الصين، في حال نجاحه في تغيير سلوك النظام في طهران. غير أن الصعوبات والعوائق الكبيرة التي تصطدم بها الديبلوماسية الأميركية داخلياً وإقليمياً ودولياً في السعي إلى هذا الاتفاق، وعلى رأسها مخاوف اسرائيل، وعصا العقوبات في الكونغرس، وتصرف إيران الإقليمي، قد تحبط هذه الفرصة وتعيد تعزيز الخيار العسكري أو خيار الاحتواء في حال طوّرت طهران سلاحاً نووياً.

الانسحاب من النزاعات
وبالسرعة التي يسير بها القطار الأميركي في اتجاه اتفاق سلام أو تسوية حول البرنامج النووي الإيراني، تهرول الإدارة الأميركية في الاتجاه المعاكس للابتعاد من النزاعات والأزمات الداخلية في المنطقة.
ففي بداية العام، رد أوباما في مقابلة مع رئيس تحرير «نيو ريبابلك» كريس هيوز على سؤال عن احتمال أي تدخل لإدارته في سورية، برسم مقاربة مع الحرب الأهلية في الكونغو التي راح ضحيتها أكثر من أربعة ملايين شخص. المقاربة بحد ذاتها لا تغلق الباب بالكامل أمام تدخل أميركي في حال تفاقم الكارثـــة الانسانية ووصـــــولها الى «مجازر عرقــــية»، لكن المقاربة تعكــــس رؤية الإدارة بعـــدم اعـــــتبار الأزمــــة السورية تهديداً مباشراً للمصلحة القومية الأميركية، وتكيُّفها مع الاقتتال الداخلي هناك.
وجاء الاتفاق على تدمير السلاح الكيماوي السوري في ١٤ أيلول (سبتمبر) 2013 ليجنّب الإدارة توجيه ضربة عسكرية إلى سورية، ويكرّس تعاوناً روسياً-أميركياً في الملف السوري كان وراء استصدار أول قرار في مجلس الأمن حول سورية منذ بدء الأزمة. فعلى رغم مواقفها حول ضرورة تنحي الرئيس بشار الأسد والاستعجال بالمرحلة الانتقالية، تحوّلت واشنطن الى موقع أكثر حذراً في التعاطي مع الأزمة وهي تنظر إليها اليوم من زاوية مكافحة انتشار الأسلحة المحظورة (السلاح الكيماوي)، ومنع امتدادها اقليمياً ومكافحة الإرهاب. وآخذة في الاعتبار ضراوة الاقتتال والتفتت في المشهد السوري، تهيئ واشنطن نفسها لحرب طويلة هناك، ولا ترى مصلحة استراتيجية لها في التدخل. وهي اتخذت هذه السنة خطوات الى وراء في دعم المعارضة العسكرية، مع تراجع نفوذ «الجيش الحر»، كما عدّلت خطابها السياسي بعدم تركيزه على تنحي الأسد، بل على مرحلة انتقالية تتفاوض حولها المعارضة والنظام.
ويأتي الانسحاب الأميركي التدريجي من الأزمة السورية في 2013 على وقع تراجع مماثل في مصر، وجلوس واشنطن في المقعد الخلفي على رغم ٤٦ اتصالاً بين وزير الدفاع تشاك هاغل وقائد الجيش المصري عبدالفتاح السيسي، بعد إطاحة الرئيس السابق محمد مرسي. وعلى رغم تجميدها جزءاً من المساعدات، ارتأت واشنطن الابتعاد من إدارة الأزمة في مصر، والتي كانت أولوية لديها في ٢٠١١، والتعامل مع الواقع الجديد بالحفاظ على المصالح الأمنية والجيواستراتيجية وحفظ مسافة من القضايا الداخلية. وكانت الانقسامات واضحة بين البيت الأبيض ووزارة الخارجية في هذا الشأن، مع تأكيد كيري مرتين أن جنرالات مصر يقودون البلاد في «طريق الديموقراطية» في مقابل انتقاد مستشارة الأمن القومي سوزان رايس أداء الجيش المصري.
ويشبه هذا النهج المقاربة الأميركية في العراق، فعلى رغم ازدياد العنف المذهبي هناك هذه السنة، تحاول واشنطن تفادي الغوص في عمق الأزمة، ويقتصر دورها على الضغط على حكومة نوري المالكي الذي زارها قبل شهرين، للقيام بمبادرات سياسية تستوعب القبائل والسنّة. فالانسحاب من العراق كما الانسحاب المرتقب من أفغانستان في 2014، يتصدر الإنجازات التي يسوقها أوباما للرأي العام الأميركي في سياسته الخارجية. وفيما ساهم هذا الابتعاد في تراجع التأثير الأميركي في دوائر النزاعات في الشرق الأوسط، تتكيف ادارة أوباما مع ذلك من منطلق «عدم إمكانية استهلاك ٢٤ ساعة يومياً في منطقة واحدة»، كما قالت رايس لصحيفة «نيويورك تايمز»، والتحول بدلاً من ذلك نحو أولويات أكثر استراتيجية، من إيران الى عملية السلام، تحفظ المصالح الأميركية والأمن الإقليمي. ويأتي هذا التحول في ظل اقتناع داخل الإدارة بأن الحلفاء المستائين من تلكُّئِها في بعض الملفات «لا يملكون بدائل»، وأن واشنطن ما زالت في يدها الأوراق العسكرية والديبلوماسية الاستثنائية للحفاظ على مصالحها في المنطقة.

السابق
بول شاوول يردّ على زياد الرحباني
التالي
ناصر قنديل: قد يحصل ليس 7 أيار بل “سبعات” أيار