العرب: الرجل المريض في القسمة بين إيران والغرب

الرجل المريض
مركز "تطوير" للدراسات يعدّ تقريرا دوريا، عبر نخبة من الباحثين، أبرزهم محمد حسين شمس الدين ووفيق هوّاري ورنيم بعاصيري ومي صايغ، وهذه المرة حول العرب كرجل مريض تتقاسمه إيران مع الغرب. ننشر اليوم الجزء الأوّل من تلخيصه، على أن ننشر الأحد الجزء الثاني والأخير.

أثار التفاهم الإيراني – الاميركي حول الملف النووي الإيراني العديد من ردود الفعل إنْ لجهة “النَّزْع المؤقَّت” لفتيل التوتُّر الشديد القائم بين إيران والغرب منذ سنوات، والذي بلغ ذروةً مشهديَّة مع التحفُّز الإسرائيلي لضرب المفاعلات النووية الإيرانية، ومع حرب العقوبات الاقتصادية الشرسة، وأخيراً مع التحفُّز الأميركي لضرب النظام السوري على خلفية استخدامه السلاح الكيميائي، أو لجهة ما قد يؤشّر إليه هذا التفاهم من احتمال تغيُّر جوهري في موازين القوى على الصعيد الإقليمي، لاسيما بين إيران الطامعة في الهيمنة على المجال الحيوي العربي، وبين الدول العربية الداعية إلى حماية “نظام المصلحة العربية” بالمطلق. خصوصاً في مواجهة إيران أو إسرائيل. ذلك أن قناعة هذه الدول هي أن جوهر الخلاف الإيراني الإسرائيلي تكمن في التزاحم على المجال الحيوي العربي، باعتباره يمثل “دولة الرجل المريض” في مرحلة ما بعد الحرب الباردة.

اللافت في ردود الفعل الفورية على التفاهم الأوَّلي إنها ظهَّرت موقفين متناقضين من الحدث الواحد: الأول موقفٌ “انتصاري احتفالي” عبَّرت عنه إيران وأدواتُها الدعائية في المنطقة، والثاني موقفٌ متحفّظ إلى حدّ الرفض عبَّرت عنه إسرائيل. ونعتقد أنّ الموقفين المذكورين مشبعان بالإيديولوجيا والبروباغندا أكثر مما يعكسان نظرة موضوعية. فالواقع أن التفاهم – بنصّه وحيثياته المعلومة – إنما عبَّر عن “رضوخ الملاكم الإيراني لشروط الغرب” قبل أي شيء آخر. هذا بالإضافة إلى أنه تفاهم “قَيْدَ الاختبار”، بمعنى أن رفع العقوبات الفعلي والكامل رهنٌ بالتزام إيران شروطاً منصوصاً عليها في ورقة التفاهم، والمفترض أن الالتزام سيكون تحت رقابة صارمة. فإذا أضفنا إلى أنّ إقرار إيران المبدئي والعملي، بعدم السعي إلى إنتاج السلاح النووي يأتي بعد نحو شهرين فقط من الشروع في تجريد النظام السوري من سلاحه الكيميائي، يتبيّن لأي مراقب موضوعي خواءُ الانتصارية الإيرانية وكِذْبهُ “الخيبة” الإسرائيلية من مضمون التفاهم. قد نرى أن “الخيبة الإسرائيلية” الفعلية ناجمة عن أسلوب معالجة الغرب للملفين الكيميائي ثم النووي، وليس عن مضمون التفاهمات. ذلك أن هذا الأسلوب تميَّز عملياً بـ “تنحية إسرائيل عن واجهة الفعل والتقرير”. وهي من سمات مرحلة ما بعد الحرب الباردة، تلك الحرب التي “يتحسَّر” عليها اليوم كلٌّ من الإيراني والإسرائيلي على حدّ سواء، ويحلمان باستعادة آلياتها ولو على سبيل التوهُّم.

من الممكن جدّاً أن يكون للتفاهم النووي انعكاسٌ مهمّ على المسائل الصراعية الكبرى من المنطقة (لاسيما قضية السلام الفلسطيني – الإسرائيلي والأزمة السورية الراهنة)، باعتبار أن السياسات الإيرانية والإسرائيلية، كلٌّ من موقعها وبحساباتها الخاصّة، شكّلت على الدوام عنصر “ممانعة” للسلام المنشود بشروط المجتمعين العربي والدولي المعلومة (قرارات الشرعية الدولية ذات الصلة ومبادرة السلام العربية – الفلسطينية). غير أنّ هذا الاحتمال الإيجابي ليس أمراً مدبَّراً بين ثنائية إيران – الدول الكبرى، وليس هو بالتأكيد مساراً يُفضي إلى حصول إيران على “توكيل” غربي بالإشراف على استقرار المنطقة”، كما بدأت توحي الدعايةُ الإيرانية من طرفٍ شبه خفيّ، أو كما أخذ يصرّح بعضُ جهابذة “التحليل الاستراتيجي” في المنطقة انطلاقاً من “الفهم المؤامراتي للتاريخ”.
المسألة أكثر واقعية وتعقيداً، أي خارج مثل هذه التوهُّمات والتبسيط الساذج. إنها مسألة صراعية وديناميكية بامتياز، يدخلُ منها تأثيرُ القوى الكبرى بلا جدال، ولكنْ تدخل فيها أيضاً وخصوصاً إرادات شعوب المنطقة، لا سيما شعبا مصر وسوريا، من دون أن نستثني شعب “ربيع لبنان 2005″، وشعب الثورة الخضراء في إيران، وأنصار السلام الحقيقي في إسرائيل، فضلاً عن إصرار الشعب الفلسطيني المدهش على السلام رغم كلّ شيء.
كذلك يدخل في هذه المسألة الصراعية، وبقوة، “نظام المصلحة العربية” وأنظمة المصالح الوطنية. ولا ننسى أيضاً حسابات القطب الإقليمي التركي الفائضة عن أجندة الأطلسي من دون التصادم معه.
إن مكوّنات اللوحة الصراعية على النحو المشار إليه لا تسمح بالاختزال وفقاً لبعض الرغبات أو الطموحات المؤدلجة، كما أنها تدعو إلى الحذر من استنتاجات نهائية متسرّعة، خصوصاً أن المعطيات الأساسيّة ما زالتْ قَيْدَ تطوّرٍ مستمر ومفتوح على احتمالات شتَّى.

السابق
محاضرتان عن المخدرات وقضايا السير
التالي
السيد محمد باقر إبراهيم: بداهة الشعر وطرافة الموقف