… وتلك التي كانت ثورة!

«نعم… كانت ثورة يوماً ما، لكنها لم تعد كذلك، سرقها الإرهابيون». صار بمقدور الأسد وداعميه في لبنان والعراق وإيران الحديث عن الثورة التي لم تعد ثورة، قالها حسن نصرالله في مقابلة أخيراً مع «أو تي في» وقالها نوري المالكي مراراً، ولمح إليها المرشد الأعلى الإيراني.
لكن ثمة مربعات فارغة في لعبة الكلمات المتقاطعة، لن ينشغل الزعماء الفرحون باتفاق واشنطن – طهران في إكمالها. والأسئلة التي تثيرها صارت من الماضي الآن، فمن يهتم كثيراً بأطفال درعا المغدورين، من سيهتم بالرصاص الذي أطلق مراراً على التظاهرات السلمية، من يستمع إلى حفلات التعذيب في المعتقلات بتهمة الهتاف خلف سميح شقير «يا حيف»؟ وبالتأكيد فإن كيماوي الغوطة غسلت آثامه قرارات التخلي عنه.
في سوقنا اللامعقول تعقد المقارنات الانتقائية كل يوم، والمقارنات لا تحتمل أكثر من خيارين: الأسد – الجولاني، المالكي – البغدادي… إلخ. يعيد الخوف والندم والدم إنتاج طواطمنا وننتقل من النقيض إلى النقيض عبر الكون المقعر من دون أن نمر في أية حلول وسط.
كان على العراقيين التوقف كثيراً قبل التورط بإجابة عن المقارنات التي تحاصرهم منذ عقد من الزمان: «أيهما أفضل صدام حسين أم الاحتلال؟». كان على السوريين التوقف أكثر قبل التورط بإجابة مشابهة، فالأسد ما زال على قيد الحكم، وينوي البقاء، وسورية «التي كانت ثورة» لا تستحق بعد كل هذا الخراب والدم سوى مهرجان «منحبك»!
من يزُرْ معسكرات اللاجئين السوريين، سيكتشف معنى «منحبك» تلك، سيكتشفها في عيون أطفال يبّس البرد جلودهم الفتية، وشابات يتلقين في كل لحظة إشارة ذات مغزى من حارس أو زائر… «بئساً»… حتى مناصرو الثورة لم يكونوا أوفياء لها، أعادوا برمجة مخيلتهم الإروسية على مشهد الصبايا الفارات من الموت. فعلوها مع العراقيات سابقاً، أخرجوا المشهد المأسوي في مواخير عقولهم، فالعراقيات بعن أجسادهن، جوعاً أو طلباً للأمن، والسوريات فعلن الأمر ذاته، سنبكي عليهن، ونستخدم غريزتنا أيضاً، فهو المشهد الإعلامي الوحيد الذي يرضي ازدواجيتنا القاتلة.
الثورة ما عادت ثورة، يمكن رؤية بعض المتحذلقين يخرجون ألسنتهم: «ها… هل صدقتم الآن!» توازنات المنطقة وإيران وروسيا لا تسمح بالثورة، لا تسمح بالحرية. بعض الكتاب والصحافيين والسياسيين الذين اندفعوا في تفاعلهم مع سورية الجديدة تراجعوا أيضاً: «جنيف – 2 في حال نجحت في حفظ الدماء ستكون خبراً مفرحاً… ولو ضمنت بقاء الأسد والنظام»… القنابل تتجاوز حدود سورية… وصلت إلى لبنان… «لبنان لا يحتمل»… ربما تتجاوز لبنان وتصل إلى الخليج والأردن ومصر والعراق… مهلاً العراق! هذا البلد لم يعد في الحسابات، فمجموعة مسلحين يستطيعون احتلال بنايات الأمن في لحظات، فعلوا ذلك في كركوك قبل أيام، أنتجوا فيلماً بكلفة باهظة. لم يعد مليون وربع مليون جندي قادرين على ردعهم.
العراق صالح للمقارنة… يمكن الحديث عن أخطار عرقنة لسورية ولبنان ومصر وليبيا واليمن… إلخ، فـ «العرقنة» هي الكلمة المناسبة التي تقابلها «منحبك»، واللغة قاحلة من المعاني.
العراق يقاتل في سورية أيضاً، يغادر شبابه يومياً إلى هناك للقتال مع كل الأطراف، ويعقد المقارنات اليومية، فالمقاتلون الشيعة لا يقاتلون إلى جانب الأسد ولا تعنيهم سورية، إنهم فقط «يدافعون عن مرقد السيدة زينب». هكذا، تشير لافتات العزاء لقتلى سقطوا هناك. والمقاتلون السنّة لا تعنيهم سورية، إنهم يقاتلون دفاعاً عن «دولة الإسلام»… وباستثناء اللافتات الشيعية المزروعة في ساحات بغداد، واللافتات السنّية في المنتديات الإلكترونية، لا يمكن تمييز فرق بين الخطابين تماماً كما يصعب التمييز بين وجوه القتلى العائدين، أو مكاتب نقل المتطوعين إلى ساحة القتال.
المقارنات عقيمة وطويلة ومتعبة، تستدرج المنطقة إلى فخاخها، إيران – إسرائيل، إيران – الخليج، إيران – تركيا، الإخوان – العسكر، سورية – العراق، أميركا – روسيا. من السهل إذاً، افتراض أن حل إيران أزمتها النووية مع أميركا سيقود إلى حل للأزمة السورية! هناك رابط معلن ومقبول أخلاقياً، ومقارنة صالحة للتجذير… فإيران نجت من أزمتها النووية عبر بحور من الدماء السورية والعراقية، دفعت كلفة مغامرتها المحسوبة حروباً بالوكالة، أسست لمنطق بدهي: «التنازلات والمكاسب تتم خارج الحدود وليس داخلها»… ألم تفعلها أميركا بوش؟!
وحدهم اللاجئون والمعذبون والجياع لا يفهمون معادلة المصالح الكبرى، عليهم أن يتواروا خلف بقايا الجدران الصامدة، أو في الخيام البائسة يحتضنون لحمهم بصمت حول نار ديسمبر… ويستعدون لدفع مؤجل لكل الفواتير المتاحة.

السابق
زيباري يحذر من إقامة إمارة إسلامية في سوريا
التالي
رُكبَتان مهشّمتان