مهمة سوداء لن تنجح

سعد الحريري

أن يكون أحد الانتحاريين اللذين نفذا عملية التفجير التي استهدفت السفارة الإيرانية، شاب لبناني من مدينة صيدا ومن عائلة مشهود لها ولرجالاتها بالاعتدال والعمل في سبيل خدمة المدينة وكل الجنوب، هو أمر يضاعف الألم الذي أصاب اللبنانيين جراء التفجير الإرهابي، ويكشف عن المخاطر الكامنة في المجتمع اللبناني والإسلامي والتي تنمو وتكبر على وقع انقسامات كبرى تغذيها عوامل القهر والتحدي والاستقواء، والتورط العسكري غير المحسوب في الحرب السورية.

وأن يكون الشاب الانتحاري قد انضوى حديثاً في مجموعة مسلحة وانتقل الى القتال معها في سوريا، قبل أن ترسله مفخخاً لقتل أهله وأبناء بلده، أمر يتجاوز مشاعر الألم والغضب الى ما يتهدد لبنان فعلاً، بفعل الخروقات التي تصيب مجموعة أساسية من النسيج اللبناني، جراء الحروب السياسية والأمنية التي استهدفت قوى الاعتدال وسياسات العزل والإقصاء التي رعتها جهات إقليمية، كانت وما زالت، صاحبة مصلحة مباشرة في كسر قواعد المشاركة في الحياة الوطنية اللبنانية.

ثم، أن يكون الانتحاري شاباً من أب صيداوي من الطائفة السنية ومن أم جنوبية من الطائفة الشيعية، فأمر يختزل كل وجوه الضياع والتخبط والقلق والكراهيات المتبادلة التي تغلغلت في بيوت الكثير من المسلمين في لبنان، وترعرعت في كنف ثقافة طائفية ومذهبية، اعتلت منصة الحياة السياسية والعامة على حساب الدولة وقرارها وقوانينها ومؤسساتها الشرعية، وأعطت نفسها حقوقاً خاصة في جعل السلاح هو الحاكم والحكم في إدارة الخلافات السياسية.

ولا شك أن هذه الثقافة أخذت طريقها الى الترسخ والانتشار، مع جريمة الاغتيال التي استهدفت الرئيس الشهيد رفيق الحريري والجرائم التي تلتها، وما أحاطها بعد ذلك من ممارسات واختراقات ومحاولات لتخريب مسار العدالة والتغطية على المتهمين وحمايتهم. وهي تحولت مع فرض الشروط السياسية بقوة السلاح الى مسار من الاصطفاف المذهبي في الاتجاهين، لا يمت بأي صلة الى الحقائق التاريخية والاجتماعية والأسرية وحتى السياسية، للحياة المشتركة بين السنّة وبين الشيعة اللبنانيين، والتي عرفها وعاشها آباؤنا وأجدادنا على مدى عقود طويلة.

وحال صيدا في هذا السبيل مميز واستثنائي، وهي التي طالما سميت بعاصمة الجنوب، وشكلت نموذجاً للعيش الوطني والاندماج الاجتماعي والعائلي بين مكوناتها من كل الطوائف، وكانت من الرئيس رياض الصلح الى الرئيس رفيق الحريري عنوان الالتزام بوحدة الدولة وسلامة العيش المشترك بين اللبنانيين.

وشأن صيدا هو شأن المدن والمناطق اللبنانية الأخرى، التي تعرضت بعد السابع من أيار 8 لموجات متتالية من التحريض والتشويه والحملات الإعلامية والسياسية المركزة، التي استهدفت تجريدها من صفات العيش المشترك والولاء للدولة وتقديمها الى الرأي العام اللبناني والى الخارج بصفتها بيئات حاضنة للتطرف والإرهاب.

ولقد أصاب هذا التشويه المتعمد مدينة طرابلس قبل صيدا بمثل ما أصاب عكار وعرسال وبعض البقاع الغربي امتداداً الى إقليم الخروب وشبعا… وحي الطريق الجديدة من بيروت طبعاً، بحيث باتت، وفقاً لعشرات التقارير والتصريحات والمقالات، نصف مساحة لبنان تقريباً، مساحة مصنفة مذهبياً وساحة تصول فيها قوى التطرف وتجول، مما أتاح للطرف الآخر أن يعطي نفسه حقوق الخرق الأمني للمناطق السنية وتشكيل السرايا المسلحة والتشكيلات الحزبية والدينية المناوئة.

وغني عن التذكير بأن الاتهام بوجود بيئة حاضنة للإرهاب والتطرف في بعض المدن والمناطق، طال العديد من التيارات السياسية، بما في ذلك قوى الاعتدال و”تيّار المستقبل” تحديداً، الذي انهالت عليه حراب الإساءة والغدر والتحريض، ووضعوه في مصاف تنظيم “القاعدة” والراعي الأول لـ”داعش” و”النصرة”، وخلافها من الهلوسات الإعلامية والسياسية، التي لم تنتج سوى المزيد من الاحتقان المذهبي والانقسام الوطني، ولغاية واحدة لا ثاني لها هي إيجاد التبريرات غير المبررة، لسطوة السلاح على الشأن الداخلي وتغطية المشاركة العسكرية في الحرب السورية.

إن أحداً في صيدا أو طرابلس أو عرسال أو بيروت أو الإقليم أو البقاع أو عكار والمنية والضنية وصولاً الى شبعا وكفر شوبا، لا يمكن أن يغطي أو يبرر أي عملية إرهابية أو حتى أن يخفف من وطأتها وأضرارها. وهي كما تيار “المستقبل” وكل قوى الاعتدال لا تبحث عن شهادة حسن سلوك من أي جهة، وحاضرها كماضيها أمين على الاستقرار الوطني ومتمسك بقواعد وثوابت الحياة المشتركة بين جميع اللبنانيين، ورافض لكل أشكال الإرهاب، الذي أصاب منها أغلى الرجال وأشدهم تشبثاً بالصيغة اللبنانية.

وها هي صيدا تقول كلمتها في هذا الشأن باسم الجميع، وترفض اختزالها بشاب باع حياته للشر ولعملية إرهابية أوقعت الأذى بأهل دينه ووطنه.

وصيدا كما المناطق والمدن الأخرى، لن تقر في المقابل لـ”حزب الله” واتباعه، الحق في تسليح السرايا والمرتزقة والتهويل بالسلاح على كل شأن سياسي، ولن تقدم للحزب واتباعه أي براءة ذمة تجاه الحرب التي يخوضها ضد الشعب السوري، والتي لن تنجح كل عمليات التجميل السياسي والإعلامي في التخفيف من آثارها وأضرارها على الاستقرار الداخلي.

قبل انطلاق الثورة السورية، واجه لبنان أخطر تنظيم إرهابي في نهر البارد، وكانت مدينة طرابلس ومناطق عكار والمنية والضنية البيئة الحاضنة للجيش اللبناني، الذي تمكن من اقتلاع ” فتح الإسلام”، فيما كان هناك من يخرج على اللبنانيين مهولاً بأن نهر البارد هو “خط أحمر”.

ولقد فعل “حزب الله” المستحيل، واستعان بالحلفاء ومذكرات التفاهم، لإلصاق شاكر العبسي بـ”تيّار المستقبل”، والتغطية على دور النظام السوري في إطلاق العبسي وفتح الحدود أمامه للتمترس في نهر البارد. ولم يفلح الحزب بهذه المهمة التي أوكلها اليه نظام الأسد، وهو لن ينجح في المهمة السوداء الموكلة اليه ضد الشعب السوري… وسيبقى “حزب الله”، مهما ابتدع من أسباب ومبررات لهذه المهمة، سيبقى في الزاوية التي تشير اليها الأصابع عن مسؤوليته في تقديم تأشيرات التسلل للإرهاب والعمليات الانتحارية.

وها هو الحزب يصر على الإمعان في الخطأ، فيضرب بكل ما أعلنه رئيس البلاد في رسالة الاستقلال عرض الحائط، ويبشر اللبنانيين بأن الرد سيكون في سوريا…

أليس هذا الإصرار سياسة انتحارية واستدراج عروض علنياً لقدوم الإرهاب؟!

السابق
لا اطفائية في صيدا: لا رواتب ولا كفاءات ولا معدّات
التالي
اطلاق نار في مخيم المية ومية بعد مقتل عنصر في سوريا