الوقت.. خسارتنا الأكبر

الوقت من بين خيرات الدنيا، مثله مثل الألماس أو النفط أو المعادن. عندما يكون المرء شاباً، يقدرون طاقاته، لأنه “واعد”.. “واعد” يعني انه يضمر طاقات للمستقبل، للوقت الآتي. يقدرونه هذا المرء، لأنه خير من الخيرات، طاقة مطلوبة للسير في الزمن بالآمال. فيكون الغزل بالشباب، الشباب في كذا، الشباب في كيت… وذلك مقارنةً بالكهول أو الشيوخ، الذين لا يحملون أي “وعد”، غير الأمراض والنق والتحسّر على الذي مضى.

هكذا هي حال الأمم أيضاً. يقولون عن “الواعدة” منها،  تلك التي تقلّ الأعمار فيها عن العشرين، أو الخمسة عشر. يراهنون على هذه النسب العالية من الشباب من أجل “النهوض”. هذا المعيار في قياس قوة الأمم بعدد شبابها عبقري، فهو يجمع بين الشخصي والعام، بين الفردي والجماعي، ليقول بأن الوقت شيء ثمين، على صعيد الأوطان والأشخاص. ليس هناك أوضح من ذلك

شباب كُثر واعدون هاجروا من البلاد، تفادياً لإضاعة ثروتهم، أعمارهم، أي ما سوف يحدّد مستقبلهم، لو أرادوا، لو قُدِّر لهم… فخلتْ البلاد إلا من الشباب القلائل، والكهول، والشيوخ، الكُثر. الأولون، يملكونه، ذاك الوقت العزيز، فيما الآخرون يقطرونه، يحسبونه. لكن الجميع ضائع في قلب وقته، يضيع وقته في دائرة لا تتوقف عن الدوران حول نفسها، فتجعل الوقت خانقاً مخنوقاً. فيمرض بالـ”السترسْ”؛ وجع رأس؟ “سترسْ”. وجع ركبة؟ معدة؟ أظافر؟ “سترسْ”… لكنه “سترسْ” مختلف. “سترس” من دوخة دَوَران الوقت حول نفسه.

انظر الى مجرى حياتك، أو حياة غيرك، العريض والضيق. ماذا تفعل أنتَ، بهذه الحياة؟ بهذا الوقت الذي مرّ، ولا يزال يمر عليك، طالما لم تَمُت؟ ماذا تفعل؟ لو كنت شاباً، مثلاً، بعدما ثقلتَ، أصلاً، بكل ما حمله أهلك من حرب، وقتهم، ثروتهم؛ يمضون ساعاتهم بالترميم، بالتنزيه، بالتجريم، بالثأر، بالسماح… وأنت الشاب، يجب أن تركض،  أن تتوقف، أن تتراكض، ان تتراجع، أن تتملص، ان تهرب، ان تتخلص… وبعد ذلك، تغطس في الزحمة وفي انقطاع الكهرباء، وما شابهها الكثير… ثم تستريح أمام الشاشة الصغيرة، أو الأصغر، أمام غبار حاجبٌ للوقت. وقتك المتبقي، ضئيل، سلعة نادرة من حولك، ثمينة. أنت في نظام يرتّب الوقت، أو يخلطه ببعضه، حسبما يراه في استراتيجيته ضمن حدودك وأبعد منها. هو قادر على ذلك لأنه يملك الوقت، بامتلاكه مالاً أو سلاحاً، أو أي نوع من أنواع  القوة. فيما أنت غارق في وقتك الدائخ.

 

 

أما “المسؤولون”، تلك الفئة التي نحب ان نذمها كلما أحببنا، فهم في الواقع ضحية قدرهم، أي النظام السياسي الذي صنع وقتهم بلائحة “مهام” مهيبة: هم في اليوم الواحد أحيانا، وأمام عيوننا، يخطبون، يستنكرون، يشجبون، يتصدرون، يفتتحون، يحاضرون، يصلّون، يحاورون، يدشنون، يتشاجرون، يستقبلون، يفتتحون، يتكرَّمون، يكرِّمون، يعقدون مؤتمرات صحافية، يعزّون، يفرحون في الأعراس، يقصّون الأشرطة، يعلنون عن مواقف، يُردّ عليهم فيعودوا ويردّون… يجتمعون حول مآدب، يلبّون دعوات الكوكتيل رفيعة الشأن، يكتبون المقالات المعبرة عن “رؤيتهم”، يتواصلون مع مريديهم شخصياً أو عبر شبكات التواصل…

 

 

كل هذا الوقت يحتاج الى وقت. فوق الوقت الطبيعي الذي يفترض بـ”مسؤول” في الدولة ان يتصرف به. لكن عندما لا تكون هناك خطط، ولا مشاريع، ولا تشريعات، ولا مستقبل… بأي شيء يقنعونك بأنهم “يشتغلون”؟

مثلنا هم “المسؤولون”، لا يعرفون شيئاً إسمه وقت، ثروة، مستقبل… أي شيء يستحق أن نبذل من أجله بعضاً من أنفسنا…. هم مثلنا أبناء هذا الفراغ الهائل المضجر؛ فراغ ضياع الوقت، ومعه الأعمار.

 

 

(سائق السرفيس يحاور نفسه بعد تفجير السفارة الإيرانية: “اليوم، الأربعاء، ما حدا نازل… كلّن خايفين… بكرا الخميس أكيد كمان… عشان الحداد الوطني… وبعدو عطلة… عشان عيد الإستقلال، والسبت والأحد بتعرفي… هيدا أسبوع راح…”).

السابق
تشييع ايوب في حولا
التالي
ابادي رفض تشبيه لبنان بالعراق وسوريا امنيا