… ثمن تخلي الشيعة عن ايران

هل كُتب للبنان أن يدفع لكل طائفة من طوائفه الكبرى ثمن الولاء له من دون سواه ليجعل منها أمة واحدة لا مجموعة أمم أو عشائر وقبائل؟

عام 1943 دفع لبنان ثمن استقلاله عن فرنسا بوضع دستور مكتوب نقل صلاحيات المفوض السامي الفرنسي إلى رئيس الجمهورية الماروني تطميناً للطائفة ودستور غير مكتوب هو الميثاق الوطني الذي خصص رئاسة الجمهورية للموارنة ورئاسة مجلس النواب للطائفة الشيعية ورئاسة الحكومة للطائفة السنية وجعل نسبة توزيع المقاعد الوزارية عند تشكيل الحكومات والمقاعد النيابية والوظائف في الدولة خمسة إلى ستة ثمناً لتخلي الطوائف المسيحية عن الانتداب الفرنسي وتطبيقاً لمعادلة لا شرق ولا غرب” وتخصيص الوظائف الكبرى لها في الدولة تبديداً لمخاوفها، وهو ما وافق عليه المسلمون بلسان الزعيم رياض الصلح عندما جاء من يقول له: إن فرنسا التي تخلى المسيحيون عن حمايتها لهم تبعد آلاف الكيلومترات عن لبنان، أما تخلّي المسلمين عن الوحدة مع سوريا فلا يبعد سوى مئات الأمتار من لبنان، ما يجعله غير دائم.

وعندما بدأ تطبيق الدستور شعر المسلمون بالغبن خصوصاً عندما كان بعض رؤساء الجمهورية يسيئون اليهم في طريقة تعيين رؤساء الحكومة وفي إقالتهم كلما قام خلاف في ما بينهم، بحيث أصبح رئيس الحكومة الذي يهمه المحافظة على كرسيه يساير رئيس الجمهورية ولو على حساب طائفته، واذا لم يفعل خسر الكرسي. لذا بدأت مطالبة المسلمين السنّة بتعديل الدستور، خصوصاً في ما يتعلق باختيار رئيس الحكومة فلا يظل تحت رحمة رئيس الجمهورية أو وفق مزاجه فيوصف بـ”شرابة خرج” او بـ”باشكاتب”، ويظل رئيس الجمهورية محتفظاً بالصلاحيات الواسعة التي يتمتع بها وكأنه “ملك على جمهورية”.

وكان من الطبيعي أن يعارض الزعماء الموارنة تعديل الدستور لئلا يقلص صلاحيات رئيس الجمهورية، الأمر الذي جعل ولاء المسلمين للبنان يضعف ويزداد ولاؤهم تارة لسوريا وطوراً لمصر ولغيرهما ويتأثرون بما يوحون لهم به في الداخل، الى أن حمل اللاجئون الفلسطينيون في لبنان السلاح بحجة تحرير أراضيهم التي تحتلها اسرائيل، واذا بهذا السلاح يرتد الى الداخل وتقف غالبية المسلمين مع ما كان يسمى “جيش التحرير الفلسطيني” ضد الجيش اللبناني، معتبرينه “جيش المسيحيين”. وظل زعماء مسيحيون يرفضون الذهاب الى لقاءات الطائف خوفاً من تعديل الدستور لمصلحة المسلمين وإخضاع لبنان لوصاية سورية سبيلاً لانهاء القتال فيه. لكن الحرب بين المسيحيين والتي عُرفت بـ”حرب الالغاء” وتعرّض جبهات القتال مع الفلسيطنيين ومن معهم لخطر السقوط، جعل الزعماء المسيحيين الذين حضروا لقاءات الطائف يرضخون لما تقرر فيه والتسليم بتقليص صلاحيات رئيس الجمهورية الى حد أصبح غير قادر على حسم الأزمات عند حصولها. وقد وُضع من حضروا لقاءات الطائف من المسيحيين بين خيارين: إما القبول بالاتفاق وبكل علاّته، أو عودة القتال.

وعند ممارسة الدستور الجديد للبنان الذي وضع في لقاءات الطائف، شعر المسيحيون بالغبن إذ اصبح رئيس الجمهورية بعد تقليص صلاحياته محكوماً أكثر منه حاكماً ولا يستطيع عندما تواجه البلاد الازمات أن يتصدى لها كونه لم يعد يملك صلاحية حسمها وعلى مسؤوليته، مثل حل مجلس النواب والدعوة الى اجراء انتخابات نيابية كي يقول الشعب كلمته بممثليه وسيلة من وسائل الخروج من أزمة تشكيل الحكومات. ويشعر المسلمون الشيعة من جهتهم بالغبن أيضاً لأن القرارات المهمة يوقعها الرئيس الماروني والرئيس السنّي ولا يشارك الشيعي في توقيعها مع أنه ينتمي الى طائفة كبيرة وقد زادها كبراً وتأثيراً سلاح “حزب الله” الذي حمله من أجل مقاومة اسرائيل، وهي مقاومة أجمع عليها اللبنانيون على اختلاف اتجاهاتهم ومشاربهم ومذاهبهم لكنهم انقسموا حولها عندما تحولت الى مقاومة الدولة ومقاومة شركائهم في الوطن.

وكما حصل المسيحيون على ما يبدد لديهم الخوف والغبن بقبولهم التخلي عن حماية فرنسا، وحصل المسلمون السنّة على ما يبدّد الغبن لديهم بنقل جزء من صلاحيات رئيس الجمهورية إلى مجلس الوزراء مجتمعاً كي يتخلوا عن الولاء لغير لبنان من الدولة العربية ويصير الولاء له أولاً خصوصاً بعدما جربوا الوصاية السورية وذاقوا مرّها، فإن المسلمين الشيعة يشعرون اليوم بالغبن لأن دستور الطائف لم ينصفهم كما أنصف السنة والموارنة، كي يصبح ولاؤهم للبنان ولا يشركون فيه أحداً، كما يفعلون الآن بجعل هذا اللواء لايران أيضاً التي تريد ان يكون للشيعة صلاحيات في حكم لبنان، وقد كتبت صحف ايرانية في الموضوع فطالبت بتعديل اتفاق الطائف، واقترح بعضها المثالثة، والبعض الآخر المداورة في المناصب الثلاثة الكبرى في الدولة. فهل يكون تحقيق ذلك هو ثمن تخلي “حزب الله” عن سلاحه ليصبح الولاء للبنان اولاً؟

الواقع أن التطورات المقبلة عسكرياً وسياسياً وترقّب نتائج التقارب الأميركي – الايراني، واحتمال حصول تقارب ايراني – سعودي، قد توصل الى طائف جديد ينصف الطوائف الثلاث الكبرى ويساوي بينها باعادة توزيع الصلاحيات على نحو أكثر عدالة، ويكون الاتفاق أيضاً على تحييد لبنان كونه المظلة التي تحمي الجميع من خلافات الداخل وتدخلات الخارج. أما اذا ظل كل طرف ينحاز إلى محور فإن أرض لبنان تبقى ساحة مفتوحة للصراعات والأزمات كما كان ولا يزال منذ عام 1943.

السابق
الراي عن مصادر خبيرة بـ حزب الله: إسرائيل ليست في وارد التعرض لنصرالله
التالي
مصدر فرنسي لـ”السفير”: أمر ما تعدّه دوائرنا للبنان لم يتبلور بعد