ظاهرة التعصّب: أسبابها ونتائجها

محمد حسن حرب
حتى القيم الدينية او الإنسانية التي قد تكون مشتركة لدى الجماعتين المتواجهتين (السنة والشيعة، مثلا) يضعف تأثيرها، وتصبح غير ذات قيمة كما تصبح العوامل الذاتية لا الموضوعية هي المسيطرة، حين يصير التعصّب هو الأساس.

إذا اردنا محاكمة ظاهرة التعصب وفي أيّ من المعايير الدينية او الانسانية الوضعية فهي مدانة وساقطة شرعيا وأخلاقيا وإنسانيا. فعلى الصعيد الاسلامي، الاسلام براء منها حكما. إذ لا يخفى على العاقل وغير العاقل ما جاء في النص القرآني عن الارتكابات والممارسات الناتجة عن التعصب التي تأخذ البريء بجريرة المذنب والتي نورد بعض ما يتعلق بها على سبيل المثال لا الحصر: “ولا تزر وازرة وزر اخرى”، و”من قتل نفسا بغير نفس او فسادا في الارض فكأنما قتل الناس جميعا”، و”يا أيها الذين آمنوا اذا جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا ان تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين”.

كذلك ما جاء في الأحاديث النبوية بهذا الخصوص لا سيما: “ولا تموتوا ميتة جاهلية”. وفيما يتعلق بالديانات التوحيدية الاخرى، فقد نهت بصورة واضحة عن هذة الآفة ودعت الى التسامح والاعتدال.

وفي المعيار الإنساني والوضعي فإنّ التيارات والمذاهب الفكرية والسياسية الحديثة، التي نادت بالحرية والديمقراطية والمساواة، شددت على قيم النزاهة والموضوعية والتجرد وتصدت بقوة للمفاهيم التي سادت اوروبا إبان عصورالظلام التي عاشتها لقرون، وكان التعصب الديني والسياسي والاجتماعي هو المسيطر خلالها. كذلك فإنّ الأنظمة والقوانين المرعية الإجراء في الدول المتقدمة التي تجاوزت الصراعات الطائفية والمذهبية والعرقية، لم تعد تترك مجالا لظهور آفة التعصب في النص والممارسة.

عرضت باختصار شديد ما يبين ان لا القيم الدينية ولا القيم الانسانية تجيز التعصب الأعمى. لكن رغم ذلك نرى أنّ مجتمعات العالم الثالث بصورة عامة ومن بينها مجتمعاتنا بصورة خاصة، تتصرف في فترات ارتفاع منسوب التعصب لديها على النحو التالي: “ان هم كالانعام بل هم أضل سبيلا”. وذلك بعيدا كليا عن مصالح الجماعة الفردية والعامة وعن المبادئ والقيم الدينية او الانسانية التي تدّعي الالتزام بها.

وهذا الامر يطال الجماعات الطائفية والمذهبية والعرقية والقبلية والسياسية كلّها، لكن بدرجات متفاوتة تتعلق بمدى شمول هذه الظاهرة الجماعة كلها او جزءا منها، وبدرجة وحدة التعصب لديها أفرادا وجماعات. وبالطبع فإنّ التعصب السياسي ينحصر ضمن القوى والتيارات السياسية الموجودة في المجتمع في حين ان الانواع الاخرى من التعصب تشمل بصورة عامة الجماعة ككل، سواء كانت طائفة او مذهبا او إثنية (عرق) او قبيلة.

لكن لماذا التعصّب وما هي أسبابه؟ لماذا لا تؤثر القيم والمبادئ لا سيما الدينية منها في الجماعة التي تؤمن بها؟ هل المتعصّبين كلّهم سواسية في درجة التعصّب وفي درجة المسؤولية عنه؟ ما الفرق بين الافراد والجماعات المتعصّبة ومن يقودها نحو التعصّب؟ ما هي اشكال التعصّب الصريح، الملتبس والمقنع؟

أسباب التعصّب، ودرجاته وأشكاله والمسؤولية المترتبة جراء الارتكابات الناتجة عنه، مسائل معقدة وتحتاج الى بحث تفصيلي معمق، ليس مكانه هنا، لكن لا بد من عرض بعض العناوين المختصرة استكمالا لما سبق وأثير حول الموضوع: الجهل هو السمة الرئيسية البارزة لمن يمارسون التعصّب الأعمى، أفرادا وجماعات، الجهل بالآخر وبالذات أيضاً، الجهل بمصلحة الجماعة التي ننتمي اليها ومدى توافقها او تعارضها مع مصالح الجماعة الاخرى، الجهل بالحقائق والوقائع، مقرونا بالانغلاق على بيئة الجماعة والوقوع تحت تأثير التحريض والخوف والحذر من الخصم الموهوم المتمثل بالجماعة المقابلة (طائفة، مذهب، عرق، قبيلة، حزب). ما يؤدي الى أخذ هذه الجماعة عدوا بالجملة دون اي تقدير او تمييز، لا فرق بين صالح او طالح، بين متشدد وغير متشدد، في الطرف الآخر. حتى القيم الدينية او الإنسانية التي قد تكون مشتركة لدى الجماعتين المتواجهتين (السنة والشيعة، مثلا) يضعف تأثيرها، وتصبح غير ذات قيمة كما تصبح العوامل الذاتية لا الموضوعية هي المسيطرة.

والجهل مرتبط بمدى تقدم وتطور المجتمعات ودرجة الوعي المدني والديمقراطي لديها، وبالتالي مدى رسوخ حقوق الانسان الطبيعية والانسانية في وجدان أيّ مجتمع والجماعات التي يتكون منها، الامر الذي يفسّر التفاوت في درجة التعصب بين مجتمع واخر او بين جماعة وأخرى في المجتمع ذاته. وفي الجماعة الواحدة هناك تمايز وفرق نوعي بين الجمهور المتعصب بالمطلق وبين فئات معينة قد تكون مستنيرة، لكنّها متعصبة بوجه الآخر، لأنّها مستفيدة من جو التعصب لأكثر من سبب ومصلحة ومن بينها الترغيب والترهيب، وهناك من يتولى قيادة هذا الجمهور نحو التعصب والتحريض عليه بمواجهة الجماعة الاخرى.

السابق
العمل الاسلامي:التجسس الاسرائيلي خرق للمواثيق والأعراف الدولية
التالي
حفل تكريم في البرج الشمالي