الحكيم الافريقي

كلما ازدادت الازمة في سوريا سوءا، كلما اكتسب الاخضر الابراهيمي المزيد من الحكمة، التي سبق ان اختبرت في الكثير من المواضع العربية والافريقية والاسيوية، وحققت نتائج متواضعة.. لكنها لم تفقد الحاجة اليها في حالات الجنون القصوى، لكي يسد فراغا عربيا وعالميا هائلا لا يمكن للامم المتحدة ولا الجامعة العربية ان تعوضه باي حال من الاحوال.

الرجل باحث دائم عن دور الوسيط، والمجتمع الدولي باحث دائم عن رجل مهتم بالوساطة المستحيلة، التي تبدو في معظم الاحيان اشبه بمحاولة تنظيم المراحل الانتقالية بين الحروب العبثية والمفاوضات الفعلية.. التي يجب ان تكون ثنائية، مهما تعددت المظلات واتسعت لتغطي الكثير من المدعوين كشهود على ما يطبخ في الغرف الخلفية او الكواليس بين طرفي الازمة، ومراقبين لحسن سير التنفيذ.

لا تخرج مهمة الابراهيمي الحالية في سوريا عن هذا السياق. هي اشبه ما تكون بدبلوماسية الوقت الضائع، بين الاتفاق الكيماوي وبين جنيف 2 . وهي محكومة باكثر من ثنائية حتى الان: إما ان يكون الحل السوري اميركياً وروسياً، او ان يكون اميركياً ايرانياً، او ان يكون سعودياً ايرانياً، لكنه في النهاية يصبح سورياً سورياً، عندما ييأس النظام من قدرته على الحسم العسكري وعندما تتعب المعارضة من فوضاها السياسية.. وعندما يقتنع الخارج انه آن الاوان لوقف الحرب المجنونة.

جاء الابراهيمي الى الازمة السورية من تجربة ليبية لا يمكن لاحد ان يصفها بالنجاح ابدا، ومن تجارب افريقية مشابهة قاربتها مجموعة حكماء افريقيا التي ينتمي اليها، كانت حصيلتها بائسة ايضا.. ومن تجربة افغانية سابقة اعترف هو بنفسه يوما بانها كانت غريبة الاطوار، ربما بسبب غرابة وباطنية الاطراف الذين كان يتوسط بينهم، مثل حركة طالبان وباكستان واميركا وايران، وهي نفسها التي تخوض هذه الايام مفاوضات ثنائية مباشرة لتنظيم الانسحاب الاميركي من افغانستان العام المقبل، ولا تشعر بالحاجة الى استدعاء الدبلوماسي الدولي المخضرم، والخبير بالتفاصيل الافغانية الدقيقة.

تجربته السورية لن تكون استثناء، ولن تحقق اختراقا. في الدبلوماسية الدولية المعاصرة نظرية مهمة: المسار أهم من المصير. والمؤكد انه ليس هناك بديل من الابراهيمي ومثل هذه الحركة في الفراغ.. التي تكون في العادة تمويهاً للاهمال العالمي او اللامبالاة ازاء المذبحة السورية، وتمثل الحد الادنى من الاهتمام، الذي يمكن ان يحتوي المعارك على جبهات القتال. لكن النتيجة تكون في الغالب معاكسة وتؤدي الى تشجيع المقاتلين على السعي الى الاخلال بموازين القوى، قبل الاعلان المفترض لوقف اطلاق النار.

حكمته الوحيدة حتى الان تتمثل في تحذيره المبكر من ان سوريا تسير نحو الصوملة، التي تعني انهيار الدولة وتفكك المجتمع ودوام الحرب الى ما لانهاية، والتي تحتمل التقسيم، على الرغم من ان المرجح حتى الان، وبرغم تشرذم المعارضة، هو ان من يستولي على دمشق سيتمكن في اليوم التالي من السيطرة على سوريا كلها..عندها يمكن ان تصبح دمشق مثل مقديشو، لكنه لن يكون لها عاصمة سورية منافسة، تقع على الساحل الشمالي مثلا!

“رائعته” الوحيدة، التي ربما صنعت مجده الدبلوماسي العربي والدولي، كانت اتفاق الطائف الذي انهى الحرب الاهلية اللبنانية واستبدلها بحروب اهلية صغيرة لا تنتهي.. والذي لطالما كان حاضرا في خلفية اي نقاش حول المستقبل السوري، مع ان طرفي الصراع هناك ما زالوا بعيدين جدا عن فكرة التسوية وتقاسم السلطة.. وما زالوا جازمين في ان النصر سيكون حليف احدهما. وهو منطق شائع في الخارج ايضا، ولا يستثنى منه سوى الابراهيمي نفسه، الذي يتحدث الان عن عملية سياسية تدريجية تبدأ في جنيف 2، بمن حضر وتكسب زخمها من نفسها، لتصبح قادرة على استدعاء او استحضار جميع المتحاربين يوما ما.

فكرة خيالية، لكنها يمكن ان تصبح عبقرية فقط لانه ليس لها بديل.

السابق
المطلوب مرشحون علنيون لا سريون
التالي
على خط ربط النزاع إلى جنيف 2