زيارة إلى غياب سحبان مروّة

سحبان مروّة
غابت ضحكة الجنوب. إذ يقولون إنّه كانها، وكان مرآة الزرارية، وأيقونة من أيقونات العلم والثقافة في الجنوب، أو بكلمتين: سحبان مروة. رجل ولد في بلدة الزرارية العام 1954، فنان متعدّد المواهب، ولا ننسى أنّه شقيق الشهيدة الأولى ضد الإحتلال الإسرائيلي، يسار مروة.

الناس عند سحبان سواسية. يراهم مجردين مثل تلك الصور المعلقة في كل ناحية من جدران بيته. اختار باب مكتبه داخل منزله ليعلق عليه صورة خاصّة. ليست صورة مفكر أو مبدع أو أي عظيم الا ذاك الرجل الفقير مادياً والبسيط عقلياً: علي ابو عاطف. كيف لا و قيمة الناس لديه بروحهم و صفاوة قلوبهم.

اما المزاح و الدعابة فلم تفارقانه حتى رحيله. كان أهالي الزرارية يستمتعون بالحديث معه.. فوجود سحبان كفيل بأن يبعد الهم عن القلب بتعامله مع مشاكلهم ببساطة ورغبته وعمله على حلها او حتى التخفيف من حدتها.

ما زالت النوادر السحبانية على كل لسان. مع ذلك حافظ سحبان على مكانته الابداعية بين الناس، عندما زاره عدد من الرجال في بيته للعمل معه. وكان هناك صورة حمار معلقة على الحائط. فسأله احدهم عن المقصود من هذه الصورة، فأجابه بجرأة: هيدي مش صورة هيدي مراية.

قرر سحبان أن يغفو على الشمعه المتبقية من تاريخه الادبي. ولفرط حبه لكتبه، روحه أبت ان تفارق جسده إلا داخل هذه الغرفة المليئة بأفكاره و على كرسيه الذي احتضنه حيا وميتاً. خطت يده آخر كلمة من كتابه “قداس جنائزي” الذي رثى فيه نفسه من خلال رثائه لأمه. فكانت النهاية فعلا.

درس الإخراج السينمائي في فنلندا، لكنه عمل في الإخراج الإذاعي الفنلندي. وفي لبنان عمل في الصحافة الثقافية، اذ كان مديراً لتحرير مجلة “الناقد”.

كان شاعرا باللهجتين المحكية والفصحى. اعتمد في أدبه على “تأصيل الغريب”، وعلى تحديث النصوص ذات الجذور التراثية والمزج بين المعاصرة والتراث. يضاف إلى ذلك عمله في الترجمتة، وأبرز لمعاته ترجمة الملحمة الفنلندية “كالنيغالا”.

حوّل منزله الى مكتبة مؤلفه من سبع غرف تملؤها الكتب في كل زاوية منها. وهي تعدّ من الأكبر في جبل عامل

مثقف، مفكر، سريع البديهة. ظهرت معرفته عند الاجابة على سؤال طرح عبر الراديو عن اسم شاعر لبيت شعري وهو في الخامسة عشر من العمر، و كرت سبحة المعرفة و الكتابة و الثقافة. كانت فنلندا مكان دراسته و مركز شهرته، فقد كرّم فيها مرات عدة و نال العشرات من الجوائز في مجال الاخراج و الكتابة. اما وطنه لبنان، الذي كان حبه الابدي، حيث ترعرع بين سندياناته و اشجار زيتونه ورمّانه، فلم يكرمه الا بعد وفاته. مثله كمثل مبدعين ومثقفين كثر كرّمهم الموت.

كان “الوطن” مركز الوحي والالهام لديه. يبتعد حامله في قلبه ويعود ليرتمي في احضانه، حتى خلال الحرب الاخيرة لم يرحل عنه رغم ان السفارة الفنلندية ارسلت في طلبه. زرع حبه داخل عقول وقلوب اولاده الثلاثة، بعاداته وتقاليده وشرقيته.

عطوف، انساني ومحب، يقول من عاشروه. علاقته بأبناء بلدته الزرارية علاقة وطيدة. فما زالت الحجة أم رائف تنتظر صحنه القروي الذي اعتادت على مذاقه بين الحين و الآخر. اما أم مصطفى، العجوز الوحيدة، فكان لها مما ملكت يداه الكثير رفقا بحالها وعطفا عليها.

وكان يمكن أن تراه جالساً مع الجميع في ساحة القرية: الكبير والصغير، الفقير والغني، المتعلم والجاهل… يرمي بمزاحه معهم الى رسم البسمة على وجوههم بنوادره الساخرة المحببة اللطيفة، والمليئة باللمعات الفكاهية.

رحل جحا الجنوب، من كتب ما لم يكتب عن سلاطين و امراء يركبون اجنحة ملائكية، وعن تجار وسماسرة تكتظ بهم الكنائس والمساجد.

“ولد الموت مع فقد الأحبة وسيموت معي حين أموت أنا”، قال.. ورحل.

السابق
الياس المرّ ليس رئيس الانتربول العالمي
التالي
الحريري استقبل الياس المر في باريس وهنأه على منصبه الجديد في الانتربول