المقاومة والأنظمة والشعوب

السيد هاني فحص
قبل نحو ثلاثة اعوام طلبت (أنا الصحفي علي الامين) من سماحة السيد هاني فحص كتابة نص عن الانظمة العربية وعلاقتها بالمقاومة. تجاوب سريعا، لكنني اضعت الاوراق في اليوم التالي، ما سبب لي احراجا مع سماحته. وظل يذكرني به بين الحين والآخر، الى ان وجدت الاوراق بالصدفة امس، وها انا انشر المقال، الطازج، كما لو سيكتب غدا. المقاومة والأنظمة والشعوب

ليس من العدل في حق سائر الشعوب العربية أن توضع اعتراضاتهم على التجزئة وإسقاط الدولة أو منع بنائها أو إعادة بنائها على أساس ديمقراطي، أي الحرية والعدالة، أن توضع، تعسفاً، في موضع التواطؤ أو العمل لصالح الولايات المتحدة الأميركية أو إسرائيل. وذلك تحت ذريعة أن هذه الفئة أو تلك هي المقاومة حصراً وأن مقاومتها تغفر لها كل شيء، حتى تسمية الأنظمة غير المقاومة بأنها أنظمة مقاومة. علماً بأن المقاومة لم تكن، ولو لمرّة، امتيازاً لأي فئة تصدت لها مباشرة بالسلاح بل هي شأن الشعوب، ولولا الشعوب المقاومة لما كان بإمكان المقاومين أن يقاوموا أو أن يستمروا في مقاومتهم. وإذا كان هناك شعب عربي لا يقاوم، فليس ذلك لأنه لا يحبّ ولا يريد أن يقاوم، أو لأن الولايات المتحدة منعته من المقاومة، بل إنّ الأنظمة هي التي تمتنع وتمنع شعوبها عن المقاومة. ولا يكفيها في اكتساب صفة المقاومة أن تقيم علاقات الضرورة الزبائنية مع مقاومة ما أو شعب مقاوم بعيد أو قريب عنها، وأن تستخدم إيجابية المقاومة التي قد تكون ساعدتها وسهلت لها أمورها لأسباب مختلفة في نيل جائزة أو رخصة الإسهام في إعاقة بناء الدولة في البلد المقاومة، حفاظاً على الشعب المقاوم، في ماضيه المقاوم وفي مستقبله، الذي يلغي المقاومة إن لم يحول رصيدها إلى رافعة من رافعات بناء الدولة… ولا في اختزال الدولة التي هي حق الشعب المقاوم أيضاً، وإن بطريقة مختلفة، وإن كان مؤسساً في تاريخ المقاومة.

في تجربتنا اللبنانية لم تكن الاعتراضات على الأداء الفلسطيني مقتصرة على خصوم المقاومة الفلسطينية أو أعدائها وحدهم، بل كانت تعم الأصدقاء والخصوم ولا تستثني اللبنانيين الذين كانت لهم علاقات عضوية بالمقاومة. وقد كان أصدقاء المقاومة والمنخرطون فيها من اللبنانيين اليقظين والمخلصين، يمانعون أن تصب حبوب اعتراضهم في طاحونة الخصوم أو الأعداء، من الجبهة اللبنانية إلى الولايات المتحدة إلى إسرائيل، إلى قوى سياسية كانت في حالة جنينية. ورغم ذلك كانت تبدي امتعاضاً من المقاومة، ليس على أدائها وأخطائها، بل على فكرتها ووجودها، مع سكوت أحياناً على توجهات خصومها وأدائها.

هذا الواقع الذي اخترقه بجدارة عالية وصبر ودأب وتضحية كبيرة، الإمام الصدر الذي أسس حركة المحرومين، تأكيداً على المقاومة، من دون أن يجعلها ذريعة لإعاقة بناء الدولة العادلة والقوية أو الاستيلاء عليها. وظل مشغولاً بالتوفيق بين المقاومة كضرورة لتحرير فلسطين، يشارك لبنان في نتائجه، حتى لو تأخر موعده، وبين الجيش اللبناني الذي لم يرتكب ولا مرة هفوة في تطييفه او اختراقه، على عكس ما فعلت المقاومة الفلسطينية ومن دون تدقيق، واستجابة لبعض حلفائها، وعلى عكس ما نراه الآن.

كان الاعتراض على المقاومة الفلسطينية اعتراضاً على اضطراب علاقتها بالشعب الفلسطيني واللبناني، وكان اعتراضاً على خروقات الأنظمة لها بمنظماتها ذات الأصول والفروع الأمنية. وكان الاعتراض أيضاً على مقايضة مساندة المقاومة في بعض السياسة وبعض السلاح، بإجازة تدخل الصديق أو الحليف الخارجي، الاتحاد السوفياتي مثلاً، في شؤون المقاومة واستخدامها للبنان منصة لمخاطبة أعدائه وحلفائه لأسباب تعود إلى نظام المصالح السوفياتية أو الروسية. حتى لو كانت تتعارض مع مصلحة المقاومة والشعوب المقاومة… كل الشعوب العربية مقاومة وكل الأنظمة العربية غير مقاومة. غاية الأمر أن نظاماً يختلف عن نظام كما تختلف القنابل الذكية عن القنابل الغبية في بناء العلاقة مع المقاومة: وهناك مقاومة على طريقة الشعب المصري، وعادته في الصبر على أبهظ الخسائر وعلى الجور والقمع والفساد الذي يتغطى بالقضايا الكبرى، إلى ان ينفد صبره ويفاجئ العالم بقدرته على صنع التحولات الكبيرة في ميدان التحرير.. وهناك مقاومة على طريقة الشعب الفلسطيني الذي صار كله مقاومة وكل حياته وحركاته وسكناته مقاومة، حتى نومه وحزنه وأعراسه وولادات أطفاله وعصافير قراه وأوراق الميرامية في الجليل، وعناقيد العنب في الخليل، وحقول الفلفل في غزة وأريحا.. تماماً كما كان الشعب السوري مقاوماً منذ غابر الأزمان، من عماد الدين زنكي إلى نور الدين إلى صلاح الدين إلى جول جمال والجزار وأحمد مريود وسعيد العاص وسلطان باشا وإبراهيم هنانوا ويوسف العظمة، إلى هبته الوحدوية (المغدورة) في العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، وحتى كان الشعب السوري فالسبب الأول والأخير في قيام الوحدة التي دفع غالياً ثمن اللعب بها والتلاعب عليها.

من دون أن يكون لنا أي مشروع سياسي في سوريا، لا تواطؤاً منا، بل التزاماً بحدود وظيفتنا في عدم التدخل بشؤون الآخرين، شرط عدم المسّ بحركات الشعوب وأوجاعها وأحلامها المشروعة، وعدم الاستهتار بدمها، وكأنه حصل. فقد كان الشعب السوري طليعة الشعوب العربية من دون مبالغة ومن دون منة من أي نظام عليه، ولم تكن الشعوب العربية متخلفة عن هذا المقام. لكنّه كان في الطليعة وتعبيراً عن “قلب العروبة النابض”، وهو مصطلح استخدم أحياناً ضد العرب وشركائهم من الشعوب (الأكراد الأمازيغ مثلاً). وهذا التعبير أنتجه الشعب السوري واستحقه بتضحياته ووقوفه في اللحظات الصعبة في وجه إسرائيل ومربيتها الولايات المتحدة. هذا الكلام يأتي من واجب وقناعة بأن الشعوب أولى من أنظمتها.. حتى الأنظمة الأقل سوءاً، أولى بالتأييد، على حاجتها الماسة إلى النقد البناء لا المصادرة ولا التخوين. وكان من أقوى حجج  ياسرعرفات في ذهابه إلى أوسلو، ومنها إلى المقاطعة، ومن المقاطعة إلى الانتفاضة، ثم الشهادة، خوفه من الذهاب قسراً أو طوعاً إلى الأحضان الضيقة والوعرة لبعض الأنظمة العربية.

إن الشعوب العربية المتظاهرة والمنتظرة لموعد مظاهراتها على شوق قديم لها وللتغيير وبناء الدولة، وتوقعها توجيه الرصاص وتهم العمالة إلى صدورها.. لها مطلب يكاد أن يكون هو أن الشعوب العربية لا تريد أن تعترف بإسرائيل وخياراتها واضحة ونهائية. وإذا كانت الأنظمة تفاوض وتتنازل وتعترف بموجب ضروراتها التي تبالغ كثيراً في تقديرها واستغلالها، وكانت المقاومات – التي لم نقصر في دعمها، راضين بالعقوبات التي ترتبت علينا جراء ذلك – قد اتهمت من انتقدوها بأنهم يقدمون الخدمة للكيان الصهيوني، لكنّها هي التي اعترفت بإسرائيل متذرعة بضرورات مسلمة وأخرى غير مسلمة، ومنها انفراد بعض الأنظمة (كامب ديفيد) ومنها مضايقات وضغوطات وحصارات من قبل أنظمة معينة، تقدمية وتقليدية معاً، ساندت المقاومة واستثمرتها. وقد اعترفت المقاومة الفلسطينية بإسرائيل، من دون أصدقائها الذين انتقدوا بعض خياراتها وممارساتها، ومنها إسهامها في خلق بدائل للدولة في لبنان بعد الفشل في الأردن مثلاً.

تلك الأنظمة تعلم أن من أسهم في تهديم الدولة وتفكيكها لا يستطيع أن يدعي أنه يبنيها. فالشعوب لا تشك في قدرته ولكنها تشك في إرادته، فتلجأ إلى إرادتها، إن عاجلاً أو آجلاً وبأساليب مختلفة، بدءاً من تونس وانتهاء بأقطار تبالغ سلطاتها في الطمأنينة، وأول الخطر عليها هي، وأول الخلاص لشعوبها، وإن كان صعباً وطويل الأمد ومكلفاً وعرضة للاختراق بالمتآمرين والانتهازيين والمتحجرين.

كيف نطمئن إلى أن فلاناً من جبهة سياسية قوية وفاعلة تريد بناء الدولة، وهي حريصة كل الحرص على مكافأة حلفائها الذين كانوا من غلاة العاملين على إفساد الدولة وتحويلها إلى قطع ومنح في سوق المساومات والصفقات المشبوهة. مكافأته بزيادة حصة من قطع لحم الدولة في الإدارة وسائر المؤسسات من التشريع إلى التنفيذ إلى القضاء من دون مراعاة أو اعتراض على الاختيارات السيئة إن لجهة الكفاءة أو النزاهة.. ثم زادت على ذلك بأن منحتهم حق “الفيتو” على أصدقائها الذين أقرن بما وقع بهم من ظلم فاحش واختبرت كفاءتهم عن كثب؟

وهم لم يتعاطوا معها لولا بالمقاومة، على عكس حلفائهم المدللين.

السابق
جمعية البر والاحسان في جباع
التالي
اجتماع ثلاثي في الناقورة