سورية من العالم قلبُه

أثبتت سورية مرّة إضافية عبر تاريخها المجيد قدماً وحضارةً وعراقةً وعلى امتداد محنتها الأخيرة المستمرّة أنها قلب العالم ونقطة المركز منه وأن الشام أمّ المدائن ورائدة التمدّن وموئل الحضارات الأعظم تتقدّمها الكنعانية الأبهى والأوفر عطاء للأمّة السورية والبشرية جمعاء. فلا عجب من بعدُ إنْ شهدت سلسلة ولادات متجدّدة ومفصلية فتتولّى أكثر من مرّة دور الريادة وتكون المهد والمنطلق. أليست دمشق البهيّة أولى المدن في تاريخ البشر وتشهد عمارتها الفريدة وآثارها على عظمة سرمديّة يبدأ منها التاريخ وينتهي في سلسلة انبعاثات متكرّرة؟
ليس غريباً عن سورية أن يتشكّل عالم جديد عند أسوارها المنيعة التي دكّتها مدافع الحقد المجنون ولم تقوَ عليها. الغرب الاستعماريّ المتصهين حتى النخاع والأعرابيّ المتخلّف الطامع والحاسد والفاسق والمبذّر ماله وخيراته على نشر الوهّابية الظلامية القاتلة انقضّ على بلاد الشام لإخضاعها فجرِّها إلى المشروع الاستسلاميّ التطبيعيّ مع «إسرائيل» الذي تعهّد به سوريون طائفيون خونة عملاء يسمّون أنفسهم «جيشاً حرّاً» أو «ثوّاراً» أو «معارضين» أو «مجاهدين» بينما هم في الحقيقة والواقع الميدانيّ المكشوف «تحالف» قوى طائفية حاقدة ضدّ «طائفة أقلّوية» حاكمة في زعم تلك القوى يحرّكها تعصّب مريض بعيداً عن الفكر المدني اللاطائفيّ المتمدّن وجزء منه «يساريّ» متأمرك حديثاً انتهازيّ ضعيف النفس متنكّر لماضيه الإيديولوجي لكونه منافقاً في الجوهر والأساس فما كان هؤلاء يوماً يساريين حقيقيين بل هم من صنف ميشيل كيلو وجورج صبرا اللذين ابتلي الحزب الشيوعي الشامي واللبناني على السواء بأشباههما من المنافقين والزائفين وعديمي الوجدان والوطنية الذين باعوا أرواحهم لشيطان مال الفسق الخليجيّ أو الأميركيّ وانكشفت انتهازيتهم المتأصلة رغم أنهم يقنعون أنفسهم ويعجزون عن إقناع الآخرين بأنّ هدفهم «النضالي» إسقاط عدوّهم التاريخي وهو ليس «إسرائيل» بالتأكيد بل «النظام» في شعارهم الديماغوجيّ المخادع.
القطبيّة العالمية الجديدة التي تشكّلت وتكرّست عند مفصل المحنة السورية الراهنة أعلنت بداية زمن جديد انتهت معه الأحادية الأميركية التي دامت نحو ربع قرن منذ تهاوي الاتحاد السوفياتي ومرور العالم في حالة انعدام وزن واختلال في الميزان ووقت ضائع نفذت الولايات المتحدة منه نحو تنفيذ مشروع هيمنتها في أكثر من منطقة وإقليم وبخاصة في شرقنا المتوسّط.
لا عجب أن تكون سورية نقطة المركز والقلب والمهد لولادة عالم جديد ينشأ هذا المجد الإضافيّ ليس جديداً لها إنّما يزاد على أمجاد تاريخية ترصّع تاج رأسها دمشق العريقة الأبيّة.

اقرأوا معي بعضاً ممّا كتب الشاعر والأديب العراقيّ مظفّر النواب في دمشق:
شقيقة بغداد اللدودة مصيدة بيروت حسد القاهرة حلم عمان ضمير مكة غيرة قرطبة مقلة القدس مغناج المدن وعكّاز تاريخ لخليفة هرم.
إنها دمشق امرأة بسبعة مستحيلات وخمسة أسماء وعشرة ألقاب مثوى ألف وليّ ومدرسة عشرين نبياً وفكرة خمسة عشر إلهاً…
إنها دمشق الأقدم ملتقى الحلم ونهايته بداية الفتح وقوافله شرود القصيدة ومصيدة الشعراء.
من على شرفتها أطلّ هشام ليغازل غيمة أمويّة عابرة «أنّى تهطلي خيرك لي» بعد أن فرغ من إرواء غوطتها بالدم ومنها طار صقر قريش حالماً ليدفن تحت بلاطة في جبال البيرينيه.
إنّها دمشق التي تحمّلت الجميع قوّادين وحالمين صغار كسبة وثوريين عابرين ومقيمين خائبين وملوّثين طهرانيين وشهوانيين…
رضّعت حتى جف بردى فسارعت بدمها بشجرها وظلالها ولمّا نفقت الغوطة أسلمت قاسيونها شامتها الأثيرة يلعقونه يتسلّقونه يطلّون منه على جسدها ويدعون كل السفلة ليأخذوا حصّتهم من براءتها حتى باتت هذه مهنة من يحبّها ومن لا يقوى على ذلك لكنّها دمشق تعود فتيّة كلما شُرق نقي عظامها.
إنها دمشق أيّها العرب محطّ سيّاحكم ومحطّ مطيّكم تمنح محي الدين بن عربي هو من لم تتسع له الأرض حضنته دمشق تحت ثديها وألبسته حيّاً من أحيائها فغنّى لها «كلّ ما لا يؤنّث لا يعوّل عليه».
إنها دمشق لا تعبأ باثنين الجلاّدين والضحايا تؤرشفهم وتعيدهم بعد لأي على شكل منمنمات تزيّن بها جدرانها أو أخباراً في صفحات كتبها فيتململ ابن عساكر قليلاً يغسل يديه ويتوضّأ لوجه الله ويشرع بتغطيس الريشة في المحبرة لا ليكتب بل ليمرّر الحبر على حروف دمشق المنجّمة في كتابها دمشق التي تتقن اللغات كلها ولا أحد يفهم عليها إلا الله جلّ شأنه وملائكة عرشه.
دمّر هولاكو بغداد وصار مسلماً في دمشق حرّر صلاح الدين القدس وطاب موتاً في دمشق قدم لها الحسين ابن علي ويوحنا المعمدان وجعفر البرمكي رؤوسهم كي ترضى دمشق … .
إنها دمشق لا تعبأ بكارهيها وتتفرّغ للغرباء الذين ظنّوا أنفسهم أسيادها ليستفيقوا فجأة وإذ بهم عالقون تحت أظافرها.

السابق
ليون: لا يجوز اختصار الحكومة
التالي
يمارس الجنس مع خروف!