الحلول وسحرها الخفي

يسألونكَ عن “الحل”. دائماً عن الحل. مهما أبحرتَ في المشاهدة أو الوصف أو الإشارة، أو النقد… يأتون لك بطلبهم للـ”حل”. أين الحل بما تقول؟ أو تكتب؟ أو تفكر؟ ما قيمة كل هذا إن لم تتلفظ بالـ”الحل”، إن لم تصرّ عليه أو تكرره أو تختم به كتاباتك؟ أو أقوالك؟ أو أفكارك؟ كل هذه العصارة لدماغك… ما قيمتها إن غاب عنها “الحل”؟ حل أزماتنا وثوراتنا وحروبنا وحروب غيرنا على أرضنا… كل هذا الذي ينكبّ عليك، فوق رأسك… لا تقلْ لي شيئا عنه إن لم يكن بحوزتك “الحل”؛ “الحل” مع اللام الف الفخيمة، الشاملة، الشمولية… وليس “حل” متواضع، جزئي، مؤقت. وكأن “الحل” كائن ضائع في حقول من الشوك، وما علينا الا إكتشاف مخبئه، كائن سحري. ووحده صاحب الفطنة الأكبر هو القادر على اقتحام عرينه… الخ.

بالكاد نبالغ في ما سبق. ولكن الوضعية الكاريكاتورية التي ارتدتها تلك الصيغة من التعامل مع النصوص والاقوال على انها تنطوي دائماً على “ولكن…”، “ولكن، ينقصها الحلول… لم تجترع الحلول… لم تتقدم بحلول…”. الى ما هنالك من أفعال الإستياء والإستنكار… بسبب غياب الحلول. ما قصة الحلول هذه؟ هل هناك نقص في الحلول؟ أو من اصحاب الحلول؟ بالعكس. الدنيا من حولنا تضج بكليهما، بالحلول وأصحابها. وهي كلها عظيمة. ولا يهمّ ان تلك التي امتحنت على أرض الواقع، أي صاحبة “الاسلام هو الحل”، كانت نهايتها مأساوية. دعْ عنك قصة الاخوان جانباً، أو بشار الكيماوي… وأنظر: انه لا يوجد الا مخرجَين جهنميين. يتقدمان بصفتهم حلولا.

ومع ذلك، لماذا يحتاج محبو الحلول الى من يقدم لهم الحل تلو الآخر؟ ربما لأنهم يلحّون بذلك على تحديد الولاء الفكري لمن يرتكب جرم النطق بما هو ليس حلاً. لا يتصورون انه في البرية ما زال هناك من لم ينضم الى كورس الحلول. انه نوع من التوريط، غير المقصود ربما، في نوع من الاجماع “الحلولي”، المطمئن الدافىء…

ليس في الأفق أي حل. وهذه من الأمور غير المفرحة. غير الدافئة. من أراد لنفسه حلاً، يخوض فيه غمار السياسة، عليه ان يجد لنفسه دوراً. لا حل من دون دور. في هذه الاثناء عليه أن يخيّط حلاً هو مشروعه. ليس مهما إن كان قابلا للتطبيق أم لا. كل الحلول غير قابلة للتطبيق. المهم ان “يسوِّق” للـ”حلّ”. اما الذين لا يصدقون قوانين السوق السياسية التسويقية، فأمامهم “حلاّن”: إما أن “يخترعوا” حلا، ينضوون في نهايته تحت أحد الأجنحة؛ وإما أن يسلّموا، بمرارة غالباً، بأن لا حل لشيء، اللهم أشياء حياتية صغيرة، التي تعرقلها على كل حال مشاريع الحلول. هؤلاء اسمهم “المراقبون العضويون” (بالتضاد مع “المراقبين الاجانب”). عضويون لأنهم جزء من تلك الكتلة البشرية التي يسيّر حياتها أصحاب حلول على أرضها. عضويوين لأنهم معنيون بالمصير الذي ستؤول اليه هذه الحلول؛ وليست لديهم أوهام حول تلك الأدوار المنوطة بنظراء لهم “التحقوا” في قطار الحلول، الكبرى دائماً، العظيمة أبداً.

ان تبجيل الحلول وتوسلها من دون ملل، هو داء ذهني. هو سدّ منيع ضد عملية عقلية تقوم على التفكيك. والتفكيك ينظر الى النقد بصفته أعلى وظائف العقل. والنقد بدوره، ذاك المورد الحيوي الذي اختلط علينا بسبب انتشار المغشوش منه، النقد هذا لا ينطلق من ان هناك حلولاً، تحتاج الى دعمه: أي، النقد بخدمة الحلول. إنما النقد هو وضعية ذهنية ترنو الى تجاوز حالة الإنسداد المعرفي، والثوري، الذي يسكن ثقافتنا اليوم. والحلول تضيّق على النقد، تسرق منه حريته.

السابق
الجيش المصري يعزز من تواجدها في محيط ميدان رابعة العدوية
التالي
وزير إسرائيلي: بشار الأسد لا ينوي التخلي عن أسلحته الكيميائية