مصر وحتمية العسكر

الحكاية الواقعية لما حصل في مصر هي الآتية: ان غالبية المصريين من ثوار وفلول وإعلام خاص وعسكر، شعروا بأن قيادة الاخوان المسلمين للبلاد سوف تودي بمصر ودولتها الى الهاوية. الثوار، وهم الشباب المخلصون لأفكار الثورة، يساندهم هنا وهناك أهالٍ ومثقفون، كانوا، ومنذ الأشهر الأولى للحكم الاخواني يخوضون الفعاليات الإحتجاجية ضد قرارات هذا الحكم المختلفة، والقاضية كلها بإحتكار الحكم وأسلمته على وجه سريع وإعتباطي. في هذه الأثناء، كانت الفئات الأخرى تغلي بداخلها، وتتفاعل شيئاً فشيئاً مع الشباب. حصل في لحظة ما من التلاقي بين الشباب والعسكر والإعلام والفلول، المتمثلين أساساً برجال الأعمال، أن أطلق بعض من هؤلاء الشباب حركة “تمرد”. حتى الآن لا نملك معلومات دقيقة عن تفاصيل هذا التلاقي. التاريخ سوف يكشفها، إن لم يربح العسكر طويلاً… المهم ان هذه القوة صارت شعبية بسرعة البرق، وتمكنت من ملايين التوقيعات وشنّت تلك التظاهرة التاريخية، المحسودة بملايينها الاثنين والعشرين، والتي باتت هي أيضاً محل تدقيق، بعدما شاعت خبريات عن إخراجها سينمائياً على يد مخرج معروف متقرب من العسكر (موضوع آخر للمؤرخين…).
كانت هناك إذن تظاهرة شعبية عارمة تطالب برحيل الرئيس الاخواني، ولم تكن تملك، ظاهرياً، إلا نفسها المتظاهرة. أي انها كانت، لو بقيت على حالها كمجرد تظاهرة شعبية عارمة، لكانت تحولت الى شيء يشبه إعتصام رابعة العدوية الإخواني، التي انتهت كما نعلم جميعاً: قوة التظاهرة بالتظاهرة نفسها، مسلحة فلوكلورياً. غير ذلك، تحتاج الى دعم قوة تتمكن من الإطاحة بالاخوان. فكان، منطقياً، العسكر جاهزين، بالقوة والشخصية والخطاب والإجراءات والحجة… وكل ما تحتاج اليه مصر في هذه اللحظة المدعاة للفراغ. فكان العسكر، وكان حضوره الحاسم بازاحة مرسي عن المشهد، وبالتمكن من النيل من الاخوان وملاحقتهم وضعضعتهم، بل إخفائهم. فتحققت أمنية الثوار… كانت لعبة موازين قوى؛ إخوان ضد جيش، أي مؤسستين منظمتين، غنيتين، عريقتين، هما بطلتا المشهد السياسي المصري منذ ستة عقود. والإخوان أقدم، لعبوا أيضا مع الملك فاروق قبل عبد الناصر. لا شيء خارج هاتين القوتين، مع الفلول، وقسط وافر منهم هو الجيش (“الدولة العميقة”)، ثم رجال المال والإعلام، الذي انضم اليه الاعلام الرسمي، بعدما استولى الجيش على ماسبيرو.
كل هذا صحيح، منطقي، متماسك مع علاماته وسياقاته. لم يكن ممكناً غير ذلك. لا أحد غير واحد من الاثنين، الإخوان أو العسكر، كان قادراً على قلب الموازنة. جُرِّب الاخوان، فكانت الكارثة. فجاء العسكر وانقذوا البلاد من المنحدر الاخواني، حفاظاً على البلاد وعلى مصالحهم أيضاً، على سلطتهم بصورة خاصة. حصل التلاقي بين مرامي العسكر الكبار الاقوياء وبين الشباب المستقوين بالاهداف نفسها، لا قوة وحيلة لهم غير ذلك، هم والشعب الذي أيّدهم.
قلنا كل هذا منطقي… ولكن الداعي للسؤال هو ذاك الركام الهائل من الأدلجة والتزيين والتبرير… ركام من الكلام الذاهب الى أبعد حدوده، من دون حرية غير تلك التي رُسمت لها اطرها وممنوعاتها. فجأة، من دون سابق أي إنذار، تحولت القيادة العسكرية الى موضوع عبادة شخصية عمياء، الى استعادة للعبادة الناصرية، وتحولت لعبة السلطة المعقدة بين الاخوان والجيش الى حفلة “تحرر” دموية وشتائمية تخوينية ضد الاخوان… حفلة تصور المعركة بين مطلقين: عسكري، مطلوب لأنه “وطني تنويري تحريري”… والثاني خائن مرذول، مطلوب موته، وقتله في معركة “شرف”. غالبية النخبة المصرية، الإعلام المرئي والمكتوب، الجدي والأقل جدية، كانت تضع على هذا الهيكل الفكري الجديد توقيعها الساخن. قليلون من بينهم شذوا عن هذا الخط المستقيم الجديد: 6 ابريل و”منظمة الاشتراكيين الثوريين” وبعض الوجوه المعروفة وغير المعروفة انشقوا. ولكن الكتلة “الصلبة” انضمت الى الجوقة، تحفزها شعبوية عتيقة وشوفينية غير مستجدة بناصرية لا تقل تفويتاً بـ”أهداف” الثورة طبعاً، التي “لن يحققها إلا السيسي”، بشيء من “التنويرية” والمزايدة الدينية غير العبقرية لأنها مستلهمة من السادات ومبارك… آخرها صورة نشرت على الشبكة، لزعيم ناصري وهو يصلي في المسجد…. على غرار “الرؤساء المؤمنين”.
أما أصحاب الضمير الحقيقي، غير المعروض على الشاشة… فعليهم أن يفصلوا بين الحكاية، ويحددها المصير، الذي لا نستطيع بازائه شيئاً… وبين المسافة الضرورية التي عليهم أن يأخذوها منها، بصفتهم أصحاب هذا الضمير، ليقولوا، بأن قدرات الثورة لم تكن على مستوى القوتين العظميين الحاكمتين لمسارها. وبأن حكم العسكر هذا ليس هو الثورة، إنما مرحلة طويلة جداً، إنتقالية، تحتاج الى من يلتقط معالمها، لا الى من يضع الصخور على دلالاتها.

السابق
حزب الله يتمدد بحواجزه نحو بيروت
التالي
مقلد : وحزب الله أيضا أصولي تكفيري