إعلام المذبحة

ضمن استقالاتها المتنوعة، استقالت الحكومة اللبنانية من مهمة ضبط ومراقبة المجال العام. تركت وسائل الإعلام تعيث فساداً، بالمعنى الحِرَفي، في بلد يقف على شفير هاوية الحرب الأهلية.
القول إن الدستور اللبناني يكفل حرية التعبير عن الرأي، قول مردود، ففي كل دول العالم ثمة تمييز واضح بين التعبير عن الرأي والتحريض على الجريمة، خصوصاً الدعوة إلى الاقتتال الأهلي الطائفي والعرقي. ما من دولة على ظهر البسيطة تقبل بخروج مروّجي القتل الصريح والعلني عبر وسائل الإعلام الكبرى كما تفعل الدولة اللبنانية.
ومقابل ترهيب الأجهزة الأمنية لعدد من المدونين واستدعائهم إلى تحقيقات مهينة وإذلالهم لمجرد تعبيرهم عن آراء ووجهات نظر على مواقع التواصل الاجتماعي، والتلويح بإنزال عقوبات اعتباطية بهم بما أنهم غير مدعومين من أي من الطوائف «الكريمة»، يسرح ويمرح عشرات مدّعي الإعلام والصحافة على شاشات الأقنية التلفزيونية وعلى صفحات الصحف ناشرين الحقد الأسود ومبشرين باقتراب أوان التذابح الطائفي.
تتيح التلفزيونات والصحف مساحات كبيرة من وقتها وأعمدتها لأشخاص أقل ما يقال فيهم إنهم لا كفاءة لهم غير التمسح على أعتاب زعماء طوائفهم ومشغّليهم في أجهزة الاستخبارات المحلية والخارجية. ينقل «الزملاء» هؤلاء ما يُطلب منهم نقله ويروجون لما يراد لهم ترويجه، سيان لديهم أسُفكت الدماء إثر كلامهم أم لم تسفك. وأمثال المذكورين لا ينبغي نقاشهم أو جدالهم بالمنطق والحجة والبرهان، بل تتعين إحالتهم، هم وأصحاب الصحف والتلفزيونات التي تستضيفهم، إلى المحاكم بتهم إثارة النعرات الطائفية والتحريض على القتل.
وغريب ذلك السلوك الذي تتبعه الأقنية اللبنانية بفتح هوائها لكل الموتورين فور وقوع حادث أمني، مهما كان مأسوياً، فبدل الاكتفاء بالموسيقى الكلاسيكية كما كانت تفعل الأقنية ذاتها قبل أعوام، نراها تسارع إلى بدء حفلة تسعير للغرائز والاتصال بكل مَن هبّ ودبّ ممن يصح وصفهم بالمستفيدين من الجريمة والداعين إلى تعميمها ونشرها، وفوق التفاهة تقيم تفاهة تتمثل باستدعاء المنجمين والمشعوذين ليدلوا بدلائهم في بلد يُسمع فيه صوت شحذ سكاكين الذبح بالأذن المجردة.
هل يجوز تبرير السلوك هذا بالسعي إلى كسب المشاهدين في ظل المنافسة الضارية بين المحطات؟ هل هي عقلية «السبق الصحافي» في انحطاطها النهائي؟
نزعم أنْ لا، فبعد نهاية الدور العربي الذي أدته الصحافة اللبنانية بين الخمسينات والسبعينات من القرن الماضي، لم يعد من وظيفة لأكثرية الوسائل الإعلامية اللبنانية غير الترويج لمنطق الجهة الممولة، حتى لو كانت تدعو إلى نصب حواجز الخطف على الهوية.
والإعلام -تعريفاً- طريق ذو اتجاهين: يعكس الواقع من جهة، ويساهم في تكوين الرأي العام من الجهة المقابلة، بحيث يؤثر على الواقع. والحال أن الإعلام اللبناني، بأكثريته -مرة ثانية- انصرف إلى مهمة ثالثة: الحفاظ على مستوى عال من التوتر السياسي والاجتماعي وتبرير المذبحة المقبلة طمعاً في رضا النافذين والممولين، القتلة الحقيقيين في هذا المسلخ البشري.
غني عن البيان أن وسائل الإعلام لم تصنع الأجواء الحالية الكالحة السواد. وبديهي أيضاً أن الصراع السياسي والأمني يتجاوز حدود لبنان وتأثير تلفزيوناته وصحفه البائسة. لكن ما ينبغي الانتباه له هو تلك العقلية الراغبة في تحويل كل شيء، حتى لو كان أشلاء جثث شهداء انفجارات الضاحية وطرابلس، إلى مكاسب ومنافع شخصية مغلفة بابتسامة غنج رجالي.

السابق
قياديون في حزب الله: شيعة لبنان لن يسكتوا عن ضيم بعد اليوم
التالي
دولة (الشام والعراق) بين الشلبي والبغدادي