مصر: بؤس الليبراليين، جنون الإخوان، وشبق الجيش

– I –
حدث ماكان غير متوقع وفق كل المقاييس:
مصر الاستثناء لم تعد استثناء في أي شيء. الجيش المصري لم يعد ذلك الجيش الوطني و”التاريخي” المُغاير لتركيبة باقي الجيوش العربية. والأخوان المسلمون لم يعودوا ذلك التنظيم الحَذِر الذي يفكر ألف مرة قبل أن يقرر مجابهة الدولة، أياَ كانت هذه الدولة من الملك فاروق إلى عبد المنعم السيسي.
بعد الاقتحام الدموي لميداني رابعة العدوية والنهضة الذي أودى بحياة الألاف، ولجت مصر فعلياً باب الحرب الأهلية من أوسع أبوابه، وأغلقت حتى أشعار آخر قد يكون مديداً كل المنافذ والمنافذ إلى المرحلة الانتقالية الديمقراطية. الاستقطاب الأهلي سيكون الآن سيد الموقف. والمجابهات الطائفية المسيحية – الإسلامية ستكون في أمر اليوم، كل يوم، بعد أن اتهم الإخوان المسلمون المسيحيين الأقباط بالوقوف وراء الانقلاب العسكري. والدولة العميقة المخابراتية- العسكرية لم تعد عميقة، بل عادت إلى السلطة بأقوى ما تكون العودة.
– II –
من المسؤول عن هذه المذبحة الديمقراطية، التي ربما تكون خاتمة فصول الربيع التي انبلجت في مصر وكل المنطقة العام 2011؟
المؤسسة المخابراتية- العسكرية المصرية ليست في حاجة إلى إضبارة اتهام. فهي مُدانة منذ أكثر من نصف قرن ليس فقط بتحويل مصر إلى دولة بوليسية سلطوية، بل في نشر ثقافة الاستبداج في كل المنطقة العربية. وهي، على أي حال، لم تقبل يوماً أن تُخطف منها السلطة والثروة (ثلث الاقتصاد المصري) بعد ثورة 25 يناير إلا مكرهة، بفعل الضغوط الشعبية والأميركية.
المفاجأة، إذا، لم تأت من الجيش، بل من الإخوان المسلمين. فهؤلاء غيّروا، منذ فوزهم بالرئاسة، مئة سنة من سياسة الحذر الشديد والخطوات السياسية الوئيدة المدروسة بعناية في ظل الشعار الشهير “المشاركة لا المغالبة”، وانطلقوا لارتشاف كأس السلطة بشبق غريب. إنهم كانوا كفقير مُعدم هبطت عليه فجأة ثروة ضخمة، ففقد توازنه وانخرط في فوضى قرارات لا سابق لها.
الأسباب التي دفعت الإخوان إلى هذا المنزلق، ربما تشبه نسبياً تلك التي حدثت بهم في أوائل الخمسينيات، ودفعتهم إلى رفع لواء النزعة القطبية (من سيد قطب) العنيفة ضد جمال عبد الناصر: شعورهم بأن هذا الأخير سرق منهم بالقوة انقلاب 23 تموز/يوليو ،1958 ولاسبيل لاستعادة المسروق إلا بقتل السارق.
الأمر نفسه تكرر الآن حين نفّذ الجيش انقلابه، لكن بشكل أخطر. لماذا؟ لأن الأخوان كانوا على قناعة تامة بأن “ماما أميركا” (هكذا كانوا يسمونها هم في عهد مرسي كتحبب رمزي) التي أبرموا معها اتفاقات مفصلة منذ العام 2005 بوساطة سعد الدين إبراهيم، تقف بقوة إلى جانبهم وإلى جانب عملية الانتقال إلى الديمقراطية.
فقدان التوازن في السلطة والرهان على أميركا، ربما يفسران رفض الأخوان لكل وأي حوار لايتضمن “عودة الشرعية والشريعة”، واندفاعهم إلى ممارسة العنف ضد المنشآت العسكرية والرسمية والكنائس في طول البلاد وعرضها. كما قد يفسّر أيضاً غياب الأصوات المعتدلة داخل التنظيم طيلة الأزمة التي انفجرت في 30 حزيران/يونيو الماضي.
– III –
من المسؤول أيضا؟
هناك متهم ثالث أكبر: إنهم اليساريون والليبراليون، الذي يفترض أنهم يمتلكون وحدهم القدرة على طرح بدائل تنموية ديمقراطية واقتصادية وفكرية وحداثية واضحة وعلمية، فإذا بهم في هذه المرحلة يبيعون جلدهم للصياد المخابراتي من دون أن يرف لهم جفن. وحده محمد البرادعي كان متسقاً مع ليبراليته وديمقراطيته، لكنه بدا بعد استقالته من نيابة الرئاسة كشاة بيضاء وسيط قطيع ليبرالي ويساري بالغ السواد والقتامة.
أجل. مصر الاستثناء سقطت. مصر الآن بعد المذبحة الديمقراطية باتت “دولة عادية”. وحين يكون الأمر على هذا النحو، لايعود غريباً أن تنشب في أول مجتمع ودولة في التاريخ، الحروب الأهلية نفسها التي تتفجَّر في أي “دولة عادية” أخرى.

السابق
منصور: للاسراع في وضع خطة أمنية تشل قدرة العمل الارهابي
التالي
رامي الريس: لاقامة غرفة عمليات مشتركة للأجهزة الأمنية