بول بوت الكمبودي يبُعث حياً في سورية

– I –
الأزمة السورية انتقلت مؤخراً من كونها مأساة إنسانية إلى كارثة إنسانية مكتملة الأوصاف، ومتكاملة الأبعاد، بحيث يمكن القول بحق أنها كارثة القرن الحادي والعشرين.

حصيلة “الانسان الجديد” في كمبوديا(الصورة من غوغل

الكثيرون من محبي علم المقارنات أسرعوا إلى تشبيه سورية بالصومال، حيث أدت الدولة الفاشلة هناك إلى سقوط البلاد في أيدي الميليشيات والمافيات المتصارعة في حرب مستمرة ومستعرة منذ عقدين. فيما البعض الأخر فضّل النموذج الأفغاني الذي تتصارع فيه القبائل والإثنيات إلى الأبد على الأرض وفتات الثروات والنفوذ بدعم من قوى إقليمية ودولية متنافسة.
بيد أننا نعتقد أن المقارنة الأهم لوضعية سورية الراهنة يجب أن تكون مع كمبوديا في عهد بول بوت في سبعينيات القرن العشرين.
لماذا كمبوديا؟
لأن ماجرى في ذلك البلد لم يكن، كما في الصومال وأفغانستان، حصيلة عشوائية لعملية إنهيار الدولة المركزية، بل جهداً مخططاً له بدقة وعناية، وعن سابق تصوُّر وتصميم.
فزعيم الخمير الحمر بول بوت، الذي تعلّم وتدرّب على يد منظرين ماويين فرنسيين خلال دراسته في باريس، تبنى نظرية “الاشتراكية الزراعية”، بدل اشتراكية البروليتاريا، كوسيلة وحيدة لبناء “الإنسان الجديد” و”الشيوعية الجديدة” في كمبوديا.
وحين اكتشف أن سكان المدن مدمنون على الحداثة الاستهلاكية ومن المستحيل عليهم قبول طبعته الخاصة من الاشتراكية وبناء الإنسان، قرر في البداية نقل كل سكان المدن إلى الأرياف لإعادة صقلهم من جديد من خلال العمل اليدوي الزراعي وغسل الأدمغة من “الوسخ الرأسمالي” العالق بها. لكن، عندما فشلت هذه الخطوة أيضاً في تغيير أنماط حياة سكان المدن، اتخذ قراره التاريخي المخيف: قتل ثلث سكان كمبوديا، أي نحو ثلاثة ملايين من أصل ثمانية ملايين. وأتبع ذلك بنظرية أخرى تقول أن الاشتراكية الزراعية والإنسان الجديد لايحتاجان سوى إلى مليوني كمبودي، ولذا لايزال هناك “فائض” من ثلاثة ملايين نسمة يمكن الاستغناء عنهم.
– IدI –
\في سورية، ليس هناك بول بوت إديولوجي من هذا النوع. لكن يبدو أن قادة النخبة الحاكمة وبعض قطاعات المعارضة على حد سواء، يتبنون توجهات مشابهة إنطلاقاً من اعتبارات ديمغرافية وأمنية وطائفية. توجهات قيل أن السيدة أنيسة، زوجة الرئيس الراحل حافظ الأسد، عبّرت عنها في بدايات الأزمة بالقول: “لقد استلمنا سورية وهي سبعة ملايين نسمة، وسنعيدها سبعة ملايين”.
ليس ثمة تأكيد ثابت لهذا القول “البولبوتي” الخطير (كما ليس هناك نفي له أيضا). لكن مع ذلك، مايجري في سورية الآن يصب في هذه الحصيلة: تشريد نصف سكانها (12 مليوناً) في الداخل والخارج. سقوط مايقترب من مليون قتيل وجريح (والعد مستعد بمعدل ستة آلاف قتيل وعشرات آلاف الجرحى شهريا). تدمير قطاعات واسعة من البنى التحتية والصناعية والزراعية، وبالطبع السياحية التي كانت تدر وحدها على سورية نحو 7 مليارات دولار سنويا. ترييف المدن عبر مسح أحياء فيها بالكامل.. ألخ.
المسؤولية هنا تقع في معظمها على كاهل النظام. بيد أن هذا لاينفي أن المعارضة المسلحة الأصولية المتطرفة، تتبنى هي الأخرى أساليب بول بوتية مماثلة، تم التعبير عنها بشعار “العلويون إلى التابوت والمسيحيون إلى بيروت”، وأيضاً بتطبيق طرائق حياة بدائية بالقوة على سكان المناطق التي تسيطر عليها.
وهنا، حيث تتقاطع أساليب النظام البربرية مع شعائر بعض قطاعات المعارضة الهمجية، يتضح كم الشبه كبير الآن بين سورية أوائل القرن الحادي والعشرين وبين كمبوديا أواخر القرن العشرين، خاصة في مايتعلق بتغيير التركيبة الديمغرافية السورية بالحديد والنار، والتهجير والتدمير، والقتل والترويع.
ومما يزيد من بربرية ووحشية مايجري، ليس فقط الصمت المريع للمجتمع الدولي على هذه الكارثة الإنسانية الكبرى والمخطط لها عن سابق تصوّر وتصميم، بل أيضاً انعدام أي إمكانية حوار بين الطرفين المقاتلين. وهذا أمر لم يحدث حتى إبان الحرب الأهلية الوحشية اللبنانية (1975-1989) حيث كان الأفرقاء المتصارعون حريصين على الأقل على عقد الجلسات تلو الجلسات للحوار، حتى وهم يعلمون أنها لن تصل إلى شيء.
– III –
سورية الآن هي حقاً كمبوديا بول بوت في صيغة أخرى. ومالم يلتفت المجتمع الدولي سريعاً إلى هذه الحقيقة، سيكون الأوان قد فات ليس فقط لمحاولة إعادة توحيد الوطن السوري، بل حتى أيضاً إلى إنقاذ ربع أو حتى نصف الشعب السوري من مصير بول بوتي آخر.

السابق
الين خلف تدخل القفص الذهبي مدنيا في قبرص
التالي
افطار في عبرا لطالبات رابطة الطلاب المسليمن