نضال سورية الضائعة

مات نضال سيجري ذلك المواطن السوري البسيط، الذي نجح في تقديمه في صورته الريفية، مع ثلة من الممثلين القديرين في ذلك المسلسل الرائع "ضيعة ضايعة"، اسعد من لا يعرف اسعد من بلدة ام الطنافس التحتا. ذلك المواطن الذي يعيش في اخر الوطن عند الحدود، وفي اخر السلم الاجتماعي، المزارع الذي لا ينفك يسعى الى حياة هانئة هادئة، لا يعكر صفوها فقر او سلطة طالما استثمرت هذا الفقر والحاجة لتطويع ابناء القرية او البلد الضائع بين حلم المحافظة على الهوية وذاك النزوع الطبيعي للخروج من اسر الحاجة والظلم. اسعد في ضيعة ضايعة، في ذلك العمل الدرامي الرائع لممدوح حمادة كاتبا والليث حجو مخرجاً، كان نموذجا لذلك الذي بقي في قريته التي غادرها معظم ابنائها بحثا عن فرص الحياة الافضل خارجها، بل خارج ارض الوطن وانتشروا في اصقاع الدنيا تاركين وراءهم اهلا وارضا وذكريات.

كاتب القصة هو واحد من هؤلاء فممدوح حمادة، ربما لأنه مهاجر كان الاقدر على استحضار الحياة الريفية عند اطراف محافظة اللاذقية قبل عقود من الزمن، واسعد كان البارع في تقديم شخصية اسعد، القروي البسيط المحب والمتسامح، الذي لا تعرف مهنة له غير التسامح والحب، ليس القرويون كلهم اسعد، ثمة وجه اخر عبرت عنه شخصية جودة صديقه وجاره وحبيبه الذي لا ينفك اسعد عن ممارسة فعل المسامحة معه، وتقبل تلك الالاعيب التي طالما كان ضحيتها في تلك البلدة التي لا تعرف الدولة طريقا اليها الا من خلال رسالة سلطة الامن، وسلطة المهربين، في مجتمع فرض عليه العوز والاهمال ان يهاجر او يهرب او يمارس فنون الخضوع للسلطة حينا والتفلت منها احيانا.

"ضيعة ضايعة" ربما هو مشهد سورية الضائعة في زمن العولمة والتحولات الاقتصادية، وكل تلك الاسئلة الملحة والجارحة منذ عقدين من الزمن، نشبت اظافرها اخيرا في عنق نضال حين داهمه مرض عضال ادى الى استئصال حنجرته، وسرق صوته الذي طالما انصتت له الأذن، وطالما كان وسيلة جذب العيون اليه والى قدراته الهائلة في بناء الشخصيات الفنية على تناقضها وتنوعها. لا يسع متابع اعمال هذا الفنان الجميل، الا ان يلحظ انه كتلة من لحم ودم معجونة بالابداع، ومشدودة الى عصب الانتماء الى الانسان وقضيته. لذا هو انحاز دوما الى الفقراء، البسطاء، الذين نبتوا في الارض وازهروا فيها. في عينيه حزن عميق ونظرة هي دوما كانت قادرة على ان تضيف الى اللغة معاني لمّاحة وفيها من البرق ما يستجلب الرعد في وجدان الناظر اليه، اما المطر فهو المبتغى الذي ظل نضال في حروبه الفنية يهطل به على العقول المتعطشة للفكرة الجميلة وللحياة بوجهها العاري.

لم يكن نضال سياسيا بل كان فنانا حقيقيا، كان منحازا الى القضايا الحقيقية تلك التي لا يختصرها رجل ولا حزب ولا مؤسسة، ولأنه فنان ومبدع يعرف دوره الحقيقي في ان يكون معبرا عن كل قيمة جميلة وحيّة في بلده، ومدافعا عن قيم الجمال والابداع والحرية، لذا كان شديد الانحياز الى شعبه وعلى طريقته. واذا كان البعض ادرج نضال سيجري في صف النظام، انطلاقا من جملة او عبارة قالها في مناسبة محددة، فذلك يعبر عن قصور لدى البعض من اختصار الفنان بموقف سياسي عابر، وليس عبر مسيرته وتاريخه الفني. فنضال في مسيرته هو من الفنانين السوريين الذين نجحوا بابداعهم في اختراق جدران طالما كانت السلطة السياسية وادواتها تتفنن في رفعها في وجههم، والمبدع هو من نجح في ان يصل الى وجدان الجمهور وقلبه وعقله، ورفع من مستوى الذائقة الفنية لديه. كتب نضال على صفحته" "أيها الموت… حتى أنت لم تكن عادلا… لم تأتِ إلاّ على الفقراء في وطني. (…) الذين استشهدوا في بلدي من عسكريين ومدنيين هم فقط من الفقراء…. الفقراء يقتلون في بلدي… والأغنياء يتشاطرون بالعدّ والاحصاء والتحريض". ونضيف: ايها الموت لن تستطيع ان تخطف منا هذا الجميل، فنضال سيجري هو من روح هذا الشعب الذي نهض بقوة الحياة التي طالما مثلها في كل الوجوه التي قدمها على مسرح الفن والحياة. وصولا الى دور صامت في مسلسل الخربة في رمضان الفائت… ذاك الصمت البليغ الذي تنشده سورية الضائعة اليوم.

السابق
حكومة الرئيس تمام سلام العتيدة : لا أحد يريدها
التالي
حزب الله ينعي ويشيع أربعه من عناصره