لعنة الهاتف في أليكانتي


في مدينة أليكانتى، التي تقع إلى شرق اسبانيا، تختصر جمال تضاريس المدن الساحلية. ويتجلّى الواقع اليومي لأهلها، الذين باتوا معروفين بين الأسبان، بولعهم بالفرح المتدفق من أرواحهم، ومنحه لزوار المدينة وغربائها.
لا تنام أليكانتى في عطلة نهاية الأسبوع. باراتها مليئة بالهاربين من صخب الحياة إلى صخب الموسيقى، والرقص على أنغامها في الشوارع، لتبدو المدينة وكأنها تعيش "احتفالها المجازي" كل أسبوع.
إلا أن المدينة، التي تمنح الراحة للجميع، والفرح الذي يغزو أروقة الروح، يصعب عليها منح الفرح للسوريين، الهاربين من فصول القتل والدمار وصور الدم اليومي.
وصلَ أحمد سرور إلى أليكانتى قبل ست سنوات، عاقداً أمله في استمرار حياة تزهو بالهدوء. لكن ذلك صار مستحيلاً، بسبب ما تتعرض له سوريا، على مدى السنتين الماضيتين. فالأخبار التي يتلقاها يومياً من سوريا، عبر الفضائيات العربية، أو عبر الهاتف، الذي يصفه بـ"لعنة" تلاحقه ككابوس مظلم، يعكّر صفو أيامه الهادئة، التي صارت ضرباً من حكايات الماضي.
غدا الهاتف مصدراً لاستقبال الأخبار السيئة، حيث وصل أحمد منذ أسابيع، خبر موت ابن خالته، عدا عن الأخبار "الثانوية" الأخرى. "ظهور رقم من سوريا على شاشة الهاتف يفعل بك ما لم يفعله الزمان". كان لابد على أحمد أن يشير إلى التخيلات والأفكار السوداء التي تصاحب رؤية رقم من سوريا على هاتفه. تبدو له رنة الهاتف هذه الأيام كـ"موسيقى جنائزية"، تلك المعاناة التي يخالها البعض، لوهلة، أكثر رحمة من أشكال النار والدخان، التي تجوب شوارع بلده، حاصدةً، ما تيسر لها من دم الأبرياء.
الخوف
مؤخراً، تحولت علاقة أحمد مع "الهاتف" إلى سردية خوف، يتكلّم عنها برجفةٍ تثير الانتباه: "لا أمتلك الجرأة الكاملة لأجيب على مكالمة من سوريا". تضعه هذه العلاقة في دائرة مغلقة ومحكمة، شكلٌ من "الهستيريا"، يتجاوز حدود المخيلة، وخوف مفرط يمتد في عتمة الليل، ويتناغم مع رهبته وظلمته الحالكة. لكن، من يجيبُ على الهاتف؟ ومن يتحمل عبء استقبال الخبر؟. لا شك في ذلك. إنها زوجة احمد من يداوم على استقبال المكالمات.
لماذا الهاتف وليس الانترنت؟
والدة أحمد، الكبيرة في السن، اعتادت على استخدام "الهاتف" للتواصل مع ابنها. ولا يحلو لها أشكال وألوان ما وصلت إليه التكنولوجيا. حركة سريعة بأصابع يدها، للضغط على زر "اتصال" في كل يوم كافية لنقل أخبار العائلة وما تعانيه في مربعات الخطر.
مقهى "دمشق"
في هذا المقهى المهاجر، الذي يمتلكه أحمد، لن تَفوتُك في ردهته، كلمة "دمشق" بالخط العربي، والـ"موزاييك"، والـ"أرابيسك" الدمشقي، وترتيب النراجيل المزخرفة في زواياه، ورائحة معسل "التفاحتين" المنتشرة، وفرشه (المطرز بخيوط الحرير) بألوانها الشرقية. كأنك في أحد مقاهي دمشق القديمة. كل الأثاث أحضره أحمد من منشأه الأصل دمشق، خالقاً عبر ذلك انسجاماً بين الاسم والشكل.
بل وأكثر، يجيء المساء، ليتحول المقهى إلى ملتقى للسوريين، في هذه المدينة، فتبدأ جولات اللعبة التراثية "الطاولة"، والنقاشات السياسة متعددة الاتجاهات.
أما أحمد، فتجده وراء الـ"كونتوار"، يكاد الدمع يتساقط على وجنتيه. تلك الشخصية الصامتة التي تحاول الاختباء من الألم داخل نفسها، ذلك الألم الملاصق لأخبار الموت المكررة، تعدى كونه ذلك، يحمله روحاً، تاركاً جسده، من مهجره، إلى بلده الغارق بالدم، لكن المسافات تبقى المسافات.

السابق
بري دعا لعقد جلسة عامة في 15 أيار لدرس قانون الانتخابات
التالي
لغز طائرة الاستطلاع