التسوية المؤقتة خيار بديل عن المواجهة

ثمة تساؤلات مشروعة تتمثل بالآتي: لماذا استقال رئيس الحكومة نجيب ميقاتي أمس إذا كان يتجه اليوم إلى أن يكون مرشح الفريق نفسه الذي سمّاه في كانون الثاني 2011 يوم الانقلاب على حكومة الرئيس سعد الحريري؟ ولماذا دفعه فريق الثامن من آذار إلى الاستقالة إذا كان اتجاهه إلى تسميته في الاستشارات النيابية الملزمة التي حدّدها رئيس الجمهورية في الخامس والسادس من نيسان المقبل؟ وأي موقف سيتخذه زعيم المختارة وليد جنبلاط في الاستحقاق الآتي إذا لم يتم التوصل إلى مرشح توافقي، ولا سيما أنه كان في المحصلة السياسية مَنْ أتمّ عملية الانقلاب على الحريري داخلياً ومن خلفه على المملكة العربية السعودية إقليمياً في المرحلة الماضية؟
لا تبدو الإجابات واضحة، إلا أن المعطيات المتوافرة لا تشي بتحوّل فعلي في المشهد اللبناني، ذلك أن الظروف التي آلت إلى عملية الانقلاب لا تزال قائمة على الرغم من التطورات التي حصلت على المستوى الإقليمي، وفي مقدمها الأزمة السورية، لا بل إن النزاع الدائر في سوريا سيُرخي بثقله سلباً على الاستحقاقات الداخلية خصوصاً أن الأطراف اللبنانية الداعمة للنظام السوري، وفي طليعتها «حزب الله»، يعتبر أن معركة بقاء نظام بشار الأسد هي معركة حياة أو موت له، ويُسخّر وراعيه الإيراني كل الإمكانات في إدارتها لمنع سقوطه. ومن غير المتوقع أن ينهج «حزب الله» في هذه اللحظة المصيرية بالنسبة إليه نهجاً مغايراً لقراره وتطلعاته في الإمساك بالقرار الوطني خدمة لمشروعه الاستراتيجي الذي يشكل جزءاً من المنظومة الإيرانية في المنطقة، والإبقاء على لبنان حديقة خلفية للنظام السوري، بل ثمة خشية من أن يندفع بوهم قوة سلاحه إلى حسابات داخلية خاطئة، ظناً منه بأن أي عملية عسكرية خاطفة أو طويلة على غرار السابع من أيار 2008 قادرة على أن تحمل له نتائج شبيهة بتلك التي حملها له «اتفاق الدوحة».
في قراءة فريق جنبلاط السياسي أن استقالة ميقاتي تفتح الباب أمام حكومة لا يكون فريق الرابع عشر من آذار خارجها، بما يؤمّن نوعاً من توازن سياسي كان مفقوداً مع الحكومة السابقة، لكنه في مقاربته هذه ينطلق من اقتناع بأن لا بديل من إعادة تكليف ميقاتي الذي سيحظى مجدداً من وجهة نظره بتأييد «الوسطيين» وفريق الثامن من آذار لاعتبارات عدة أبرزها توفير المظلة السياسية لسلاح «حزب الله» من خلال تبنيه معادلة الجيش والشعب والمقاومة، التي يتمسك بها الحزب شرطاً رئيسياً لقيام أي حكومة، وترفضها قوى الرابع عشر من آذار، الأمر الذي يؤول إلى استنتاج من اثنين: إما إنتاج حكومة بمعادلة «حزب الله» وإما تعطيل تشكيلها، بحيث يتوقف المسار عند رئيس مكلف وحكومة تصريف أعمال إلى حين تبلور التطورات الإقليمية وما سينتج عنها من موازين قوى جديدة.
ووفق المتابعين، فإن الهوّة كبيرة بين طروحات فريق الرابع عشر من آذار وفريق الثامن من آذار حيال شكل الحكومة العتيدة وأجندتها، فيما الاتصالات حول قانون الانتخابات النيابية، والتي أفضت إلى قبول قوى الرابع عشر من آذار بقانون مختلط تبدو أنها ذهبت أدراج الرياح. فـ «حزب الله» و«التيار الوطني الحر» يتمسكان باقتراح القانون الأرثوذكسي، وإلاّ لا انتخابات، إذ أنه القانون الوحيد، دون سواه، الذي يُؤمّن للحزب وحلفائه الأكثرية التي يريدها من دون جنبلاط. وفي حساباتهما أن إمكانات تمريره في الهيئة العامة لا تزال متوافرة. فعلى الرغم من الإشارات الإيجابية التي ترسلها «القوات اللبنانية» إلى حلفائها من أنها لن تسير في المشروع الأرثوذكسي، فإنها تشترط أن يتم توافق قوى الرابع عشر على قانون موحّد، وهو أمر لا يمكن أن يتم تحقيقه من دون جنبلاط ، الذي لا تزال عقبات تحول أمام إنجاز التوافق المطلوب معه.
ومن هنا، لا تستبعد قوى في الرابع عشر من آذار احتمال أن يتم إقرار القانون الأرثوذكسي. وتتحدث عن سيناريو يُحضّر له رئيس مجلس النواب نبيه بري مع حلفائه في الثامن من آذار، بحيث يدعو إلى جلسة عامة في أيار يُقرّ فيها القانون الأرثوذكسي، فيطعن عندها رئيس الجمهورية به ويحيله إلى المجلس الدستوري الذي يحتاج إلى شهر على الأقل لإبداء رأيه، فتصل إلى موعد التاسع من حزيران حيث لا قانون، وحيث يتم تأجيل الانتخابات، ويُفتح الباب أمام تمديد المجلس لنفسه، فيكون حزب الله قد حقق ما يريده لجهة البقاء على المجلس الراهن، بما يؤمن له استمرار «الستاتيكو» القائم مع رئيس مكـلّف وحكومة تصريف أعمال ومجلس مُمدّد له وفراغ في سدة الأجهزة الأمنية. فرغم الكلام عن مقايضة ممكنة بين التمديد لمجلس النواب والتمديد للأجهزة الأمنية، فإن معلومات أسرّها قيّمون في «حزب الله» لبعض السياسيين عن استحالة السير بالتمديد للقادة الأمنيين، انطلاقاً من « فيتو» على مدير عام قوى الأمن الداخلي اللواء أشرف ريفي يتشارك فيه «حزب الله» والنظام السوري الذي يرى أن «فرع المعلومات» يلعب دوراً رئيسياً في تقديم الدعم المتعدّد الأوجه للمعارضة السورية المسلحة أشبه بالدور الذي تقدمه تركيا من أراضيها للمعارضين السوريين، وأن فرصة الانقضاض على هذا الجهاز قد أتت مع تقاعد ريفي، وهي مسألة تأتي في سلم أولويات الحزب والنظام السوري، ولا سيما أنه الجهاز الأمني الوحيد الخارج عن سيطرة الحزب والعاصي على إرادته.
على أن مسار التأليف سيرسم المنحى السياسي للمرحلة المقبلة، وما إذا كان مفتوحاً على المواجهة أو على التسوية المؤقتة. فمع انسداد أفق التسوية الكبرى لعدم توفّر المناخات الإقليمية في ظل احتدام الصراع العربي – الإيراني، وعدم بروز توافقات أميركية – روسية حيال الكثير من الملفات العالقة، بدءاً من النزاع في سوريا مروراً بالملف النووي الإيراني ووصولاً إلى الدرع الصاروخي وضمان استقرار دول آسيا الوسطى، تنحصر احتمالات الحل بتسوية الحد الأدنى القادرة أن تؤمن مستوى مقبولاً من الاستقرار الأمني والسياسي والاقتصادي في مرحلة الانتظار. ومن شأن الأيام المقبلة أن تبلور مدى إمكانية الوصول إلى هكذا تسوية وماهيتها وحدودها، كخيار بديل عن المواجهة الآيلة إلى إحداث شلل في المؤسسات الدستورية والأمنية في البلاد.

السابق
شهيب: ليس من المنطق ان تبقى الوزارات حكرا على فريق معين
التالي
المفتي قباني مستنكراً اغتيال الحرفاني: الاضطراب في البلد ينذر بالخطر الكبير