العلمانيون يُفسِدون حياة الدينيين

مثيرةٌ بل مدهشةٌ مفارقات التاريخ. ودائما يثبتُ ويظْهرُ أن ما يُنتجه "جدل" العلاقات الانسانية والفكرية والسياسية لا يُمكن حِسبانُهُ. فهل وُلِدت "العلمانية" العربية سياسياً في زمن انتصار أكثر أعدائها الفكريين والسياسيين تأصلاً ورسوخاً وهم "الإسلاميون" وتحديدا "الإخوان"؟

واحدة من الظواهر المهمة جدا التي يشهدها العالم العربي حاليا هي "الصحوة" العلمانية. بمعنى ظهور فاعلية اليساريين والليبراليين وغير الدينيين بعد اندلاع ثورات "الربيع العربي" بشكلٍ لا سابق له.
يرتدي "اليساريون" العرب ثوبا ليبراليا منذ بدأت سنوات "نهاية التاريخ" أي منذ سقوط الاتحاد السوفياتي ومعه الانتصار المدوّي للقيم الفكرية الديموقراطية الغربية في أوائل تسعينات القرن المنصرم. لم يشمل "الارتداد" بل حتى "الردة" نحو الفكر الليبرالي اليساريين وحدهم إنما راحت كيمياءُ التاريخ تغيّر لأسباب مختلفة الإسلاميين أنفسهم. هكذا أتى "الإخوان المسلمون" على صهوة الحصان الديموقراطي في "الثورات العربية" السلمية في تونس ومصر و تأثيرها المباشر في وضع المملكة المغربية. وهم حتى في الثورات – الحروب الأهلية كليبيا والبحرين والأفظع سوريا يحملون الخطاب الديموقراطي الغربي.
لكن اليساريين الذين هم شركاء نخبويّون – أي أقلية – أصيلون في "الربيع العربي" ضد الاستبداد وتحديدا في بَلَدَيْهِ الأهم ثوريا تونس ومصر يتميّزون بأنهم يحملون الشعار "العلماني" بتعبيراته المختلفة ضد الخطاب الديني والنزوعات الأصولية في السلطات الجديدة. ولذلك بدوا في الفرز الذي انطلق فور سقوط الديكتاتور هنا وهناك جزءا ديناميكيا من تحالف "علماني" نخبوي واسع من الطبقة الوسطى يضمهم ويضم أجيالا جديدة من ناشطي "الانترنت" الليبراليين والإعلاميين والفنانين والمثقفين أخذ "يفسد حياة" السلطة الدينية الجديدة ذات الامتداد الشعبي الأكثري الذي أثبتته في كل انتخابات جرت حتى الآن بعد الثورة في مصر وفي تونس (والمغرب).
هكذا من كان يتوقّع أن الحركات الليبرالية واليسارية التي جعلتها العهود السابقة منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية هامشيةً وملحقة بالسلطات العسكرية أو في السجون، بل هذه الحركات التي وُلدت ضعيفةً في بلداننا (المُتَديِّنة) إن لم تكن وُلدت ميتةً سياسيا، ستظهر فعلا بعد ثورات "الربيع العربي" ليس فقط فعالة وأساسية بل في أقوى أدوارها على الإطلاق كجزء من الحركة العلمانية الليبرالية الرافضة لسطوة التيارات الدينية.
اليوم في مصر وفي تونس بات تأثير الأسماء "العلمانية" في الصحافة والتلفزيون وشبكات التواصل ذا إشعاعٍ على المستوى الوطني لم يكن لها في أي وقت. وإذا كانت هناك عشرات الأمثلة في الصراع اليومي الدائر في مصر في الثقافة والسياسة في الشارع والمؤسسات، ففي تونس أظهر اغتيال المناضل اليساري شكري بلعيد ما بات لهذا النوع من الشخصيات من قيمة وتأثير على المستوى الوطني وما تُنبِئه ردود الفعل على مقتله يُظهر أن المساحة التي يمثّلها أقرانه ونظراؤه لم يعد ممكنا ليس فقط تجاهلها بل بناء تونس الحاضر بدون مشاركتها بأشكال مختلفة.
دعونا لا نقع في فخ بناء صورة غير واقعية: يجب أن نعترف أنه صراع بين أكثرية وأقلية. أكثرية شعبية تمثّلها الحركات الدينية السياسية وأقلية تمثّلها الحركات الليبرالية العلمانية. لكنها هنا أكثرية شعبية بدون "نخب" في الثقافة والإعلام والفنون وهناك أقلية هي النخب الفاعلة في "الطابق" الأعلى من النقاش العام.
المعركة الفعلية المندلعة في مرحلة ما بعد "الربيع العربي" في مصر وتونس وليبيا هي معركة بين "الإسلاميين" وبين ورثة النخب التي حملت قيَمَ مائة عام من ثقافة محاولات التحديث العربية والتي سُحقت لفترات طويلة في الصراع بين الأنظمة العسكرية والتيارات الدينية الأصولية منذ عام 1948. الثورات العربية" غيّرت هذا التوازن وجعلته مواجهة مباشرة وواضحة بين جبهتين عريضتين: جبهة التيارات الأصولية بقيادة "الإخوان المسلمين" وجبهة التيارات الليبرالية "العلمانية" بالمعنى العربي الآخذ بالتبلور لمصطلح "علماني" مثلما تبلور تاريخيا في التجربة الأميركية مصطلح "سيكولير" للفصل بين الدين والدولة ولكن بدون مضمون عدائي للدين.
تصدر عن هذه النخبة – الخليط الليبرالي العلماني اليساري (وتضم فئات مسيحية أساسية في مصر) تعبيراتٌ سياسيّة تحاول إعادة استنفار قوة اعتراض في الشارع السياسي مع حذر متواصل من قِبَلِها حيال الانتخابات حتى لو أنها تأتي بنتائج محترمة ولو خاسرة كما حصل في الانتخابات الرئاسية المصرية والانتخابات التشريعية التونسية. لكن أيضا يؤدي تمحورُ الصراع بين هاتين الجبهتين "الإخوانية" و"العلمانية" إلى ظهور تعبيرات فردية متطرفة لا يُبنى عليها سياسيا ولكن يُبنى على شجاعتها من نوع تعرّي السيدة الشابة علياء المهدي التي يبدو أنها باتت تنخرط في "حركة احتجاج " يعتمد هذا الأسلوب أو مؤخرا ظاهرة رقصة "هارلم شايك" وغيرها من الأمثلة العديدة لمواقف وعطاءات فنانين لها قيمة الدلالة وإن لم يكن لها قيمة الفعل السياسي.
تنهض النخبة المصرية بأجيالها الجديدة من كبوة سياسية ليستند صراعُها الآن مع التيارات الأصولية على إرث حداثي مصري وعربي، ثقافي وفني واجتماعي، يولد الآن سياسيا على أيدي جيل جديد ويتشكّل معه وسط ويسار وسط ويمين وسط معارض ضد يمين ديني حاكم.
مرة أخرى "يولد" تيار في اللحظة المفترض أنه مات فيها.
لكن أحد الأسئلة التي تستوجب تفكيرا عميقا بالمقابل هو التالي:
إذا كان الصعود السياسي الأصولي في العالم العربي سيؤدي إلى تهديد وجود المسيحيين في المنطقة، من حيث ان هذا الصعود هو صحوة طائفية، فهل يمكن لـ"الولادة" العلمانية الجديدة أن تتكئ فقط على صحوة النخب الليبرالية المسلمة بدون النخب المسيحية التي كانت ذات دور طليعي في عصر النهضة العربية وفي أي نهضة عربية منذ ظهور الإسلام؟
لكن هذا مستوى آخر للتأمل.
وأسئلة "الربيع العربي" الجوهرية، سلبا وإيجاباً، عديدة، هي أسئلة أي تحوّل تاريخي.

السابق
النظام السوريّ: اللاحدث هو الحدث
التالي
مخرج لائق للأسير