العلامة حسين شحادة: ليكن هدفنا سلام الاديان لا حوارها

الشيخ حسين أحمد شحادة رجل دين وفكر ينظر إلى الدين بعين الباحث عن دنيا أكثر شفافية ومجتمع قيمته الإنسان. عالمٌ مفكر وباحث ناقد له العديد من المساهمات القيِّمة في التواصل والحوار بين الأديان والحضارات. أمضى قسطاً من حياته في الغربة داعياً لنصرة الإنسان وحقوقه، بمعزل عن التعصب مناشداً بالأخوة والتواصل لبناء مجتمع متفاعل لخير البشرية.
في ما يلي نص اللقاء الذي أجريناه معه مؤخراً:

  بكلمة موجزة كيف عشتم طفولتكم، وما تأثيرها على مجرى حياتكم الفكرية؟
ولدت في شرق بيروت، وترعرعت في جوار مسجد وكنيسة يطلان على منزلنا المتواضع في برج حمود، وتقص علي والدتي بأن المرض فاجأها في الأسابيع الأولى من مولدي، فسلمتني لجارتها المسيحية. وفي بواكير صباي اكتشفت نعمة الاتصال بدروس سماحة المرجع الديني العلامة السيد محمد حسين فضل الله رضوان الله عليه في أول حوزة دينية في بيروت، كذلك نشأت مع مكتبة والدي رحمه الله، فكان لها تأثيرها الجاذب في شخصيتي كمفهوم بحب المعرفة والقراءة التي أوقدت في عقلي وقلبي الهجرة لطلب العلم في النجف الأشرف. وأول ما نشر لي من مقالات في أوائل سبعينات القرن الماضي في مجلة "العرفان" في بيروت ومجلة الفكر الإسلامي في طهران، ومجلة الهادي العربية في قم المقدسة. وباكورة أعمالي كانت عن العمل وحقوق العامل في الإسلام ثم عن رسالة الحقوق للإمام زين العابدين(ع).

  ما هي رسالتكم كرجل دين وفكر بالتواصل مع الأزمات السياسية ذات المنبع الديني وما هو دوركم ومساهمتكم في حل تلك الأزمات؟
رجل الدين ومسألة المعرفة.. رجل الدين ومسألة الوسطية والاعتدال.. رجل الدين ودوره في المجتمع، رجل الدين ورسالته الربانية، هذه العناوين وسواها تضعنا أمام سؤال موضوعي هو البحث في مكونات شخصية الفقيه أو ما يصطلح عليه الإعلام بالمفكر الإسلامي الذي تقدم اليوم على مصطلح العلماء والأولياء والصالحين.. والحديث يطول عن نشأة هذه الألقاب والمصطلحات ومدى صدقيتها في واقع إسلامي مأزوم تلاطمت فيه أزمات المجتمع بأزمات القيمين على إصلاحه. وأراني أذكر اليوم ما كان يدور في القرن الماضي من أحاديث عن مأساة رجل الدين وغربته عن عالم كانت تجري معاركه السياسية ضد ما كان يسمى بالرجعية الدينية وقوى التخلف الديني. بيد أن استشراف المشهد الإسلامي في تطوراته التي حصلت على مستوى حركة الإسلام السياسي، وضعت رجل الدين المسلم في صلب ما نشهده من انحطاط ديني واحترابات باسم الدين. وفي ضوء ذلك التبست أزمة العقل الإسلامي ليغدو المتكلمون باسم الدين جزءاً من أزمة النظام الاجتماعي والسياسي ما اضطرني وزملاء من أترابي وأصدقائي أن نعمل ولأول مرة على منهاج نقدي من داخل المؤسسات الدينية نفسها. وما يزال جوهر الجدل المثار حالياً مهموماً بقضايا الدين وتحديات العولمة، انطلاقاً من جداول أعمال متناثرة، ولكنها أسست إلى ضرورة المراجعات النقدية للفكر الديني السياسي وخطابه السائد.


وسط المنازعات القائمة حول الحدث الديني والسياسي والتاريخي كيف تجدون الحلول وما هي برأيكم كلمة الفصل؟
لذلك أجاهر في نقد الذات الدينية ولا أغوص في فتن الماضي وسلبياته. وقد اتجهت على منابر الحوار إلى التأكيد، على أن المسائل التي يختلف عليها المتكلمون باسم الدين، تكاد تتمحور في مساحتها العريضة حول قضايا التنازع على وقائع الحدث التاريخي، أو على الاختلاف على رمزيات الأشخاص والأحداث وسواها من المناقشات التي لا نملك إجابة حاسمة عليها، إلا أن يلتقي الجميع على وحدة المنهج والمعيار الذي نحتكم إليه. فإذا امتد بنا الشقاق الديني إلى نفق مجهول، يجدر بنا، وبحسب التوجيه القرآني إحالة كلمة الفصل إلى الله لنلتفت من وراء هذه الهداية إلى وجوب انطلاق العمل الديني المشترك من نقاط الاتفاق، ليكون حوارنا حوار حياة ضمن دائرة الأمة الواحدة وتحقيق تنميتها. ومن هنا كانت مناداتي في "مجلة المعارج" إلى الانتقال بحوار الأديان من حوار موضوعه الدين إلى حوار موضوعه الإنسان.
لقد عملت وما زالت أحمل رسالة التأصيل الفقهي لحقوق الإنسان. وقد قدمت عشرات الأبحاث والدراسات حول التعددية الدينية في الوطن العربي وتحديات الحرية والمساواة السياسية. وقد أعلنت في أكثر من مناسبة عن تحفظاتي على مصطلح الأقليات الدينية. وعلى ذلك كنت أشير إلى وجوب إعطاء الأولوية لفقه الإدارة والاجتماع. ومن عيوب الرسائل الفقهية إهمال هذا الجانب الحيوي الذي سمح لبعض تيارات العنف الديني الترويج لإفهامهم الخاطئة حول التكفير وأحكام الارتداد. وقد طرحت في هذا المجال العديد من الدراسات التي ترفض تقسيم الجغرافيا إلى دار كفر ودار إسلام. وتركزت توصياتي حول وجوب إعادة النظر بالأحاديث الموضوعة ولا سيما تلك التي تتحدث بغير سند صحيح عن الفرقة الناجية، أو عن القطع مع الآخر المخالف. وعندي أن المسألة الجوهرية اليوم هو إعادة إنتاج أو بناء وعي جديد لمقاربة مسائل المواطنة والعيش المشترك فلا يجوز تصنيف خارطة المشكلات الإنسانية إلى مشكلات تخص المسيحيين وأخرى تخص المسلمين، لأن هذا التصنيف هو من رواسب الطائفية التي لا تمت إلى الأديان التوحيدية بصلة.

كيف ترى حوار الأديان وهل أدى إلى نتائج إيجابية؟
من واقع تجربتي الخاصة أرى أن حوار الحياة بين الأديان لم يبدأ بعد.. ذلك أن كل فريق داخل منصات الحوار الديني يحملنا بمفاهيمه وأفكاره إلى شجون الماضي ومعتقدات اللاهوت والشريعة، من دون أن نحدد الاستراتيجية الموضوعية لحوار كان يجري في الماضي بين أنا المتكلم وهو الغائب، إلى حوارات تجري اليوم بذهنية الاحتجاج والاحتجاج المضاد على مفاهيمنا العقدية وأصولها.. وما يعنيني في راهن الاحتقانات المذهبية والانقسامات الطائفية الحادة، هو إحلال شعار – سلام الأديان بوصفه هدفاً للجميع مكان حوار الأديان بوصفه وسيلة مرحلية لتحقيق أهدافنا المشتركة في الأمن الديني والاجتماعي والوطني. ولا خيار لعالم عربي يحاصره الاحتلال من جميع جهات التدخل والهيمنة إلا أن نعمل، على توسيع الدروع الدينية لتحمينا من شرور الإرهاب الديني في الداخل وشرور الاحتلال الوافد علينا من وراء البحار.

كيف ترى دور وتأثير المحطات الدينية الفضائية على الوعي العام للشعوب وهل تراها لأهداف تبشيرية أو تخريبية؟
لفتني من عشرات الفضائيات الدينية التبشرية تحالفها السري والعلني مع مشاريع الفتنة في الشرق الأوسط، فترى بعضها يقيم برامجه الإعلامية على تدمير معاني الإخاء السني – الشيعي، فيما تطل علينا برامج مشبوهة تمعن في تقطيع أواصر الإخاء المسيحي – الإسلامي. وعلى الطريقة نفسها تعمد بعض الفضائيات إلى تقديم صورة الإسلام بملامح خرافية وأسطورية وجاهلية، تدفع المشاهد إلى النفور من هذا الإعلام الديني الذي يمعن بتزوير القيم الإسلامية، وتشويه الصورة الإسلامية في واضحات الفضاء الممدود إلى جميع جهات العالم. وبعيداً عن ميثاق الشرف الإعلامي، فإني أحمّل وزراء الإعلام العرب والمسلمين كامل المسؤولية عن هذه الفوضى التي ملأت الأبصار والأسماع بسموم الفتن الدينية العمياء.. ولا أعفي من هذه المسؤولية دور المرجعيات الروحية في التصدي في مواجهة كل إعلام ديني يمتح من جهالات الفتن ثم يعمل على تسويقها وتصديرها. ويبقى على الباحثين في شؤون الإعلام الديني ورسالته، مهمة تشخيص الأمراض الإعلامية التي لا تراعي شيئاً من أدب الحكمة والموعظة الحسنة، وفي مجتمع يستجيب لسنيات القول ولا يبحث عن الجانب الأحسن من كل كلام.

ما هي همومكم ورسالتكم؟ وما هو دور "مجلة المعارج" في تصحيح مسارات الفكر الديني كما يراها الشيخ شحادة؟
مشروعي هو الأخلاق ورسالتي هي الأخلاق. والعلاقة بين الأديان التوحيدية هي علاقة عضوية والمحتوى الحضاري والإنساني للدين كله، هو الأخلاق. وانطلاقاً من هذا الهم أنجزت "التفسير المقارن للقرآن" و"فلسفة الأخلاق في القرآن الكريم" و"موسوعة اجتماعيات الدين والتدين"، "اجتماعيات اليهودية والإسلام"، "اجتماعيات المسيحية والإسلام"، "اجتماعيات الدين والدولة". وقد بادرت إلى تأسيس مجلة المعارج منذ العام 1990 وصدر منها حتى تاريخه خمسون ومائة عدد تعنى بأسئلة الوحدة والتجديد والحوار والدعوة من خلالها إلى صميم البحث في علاقة الدين بالزمن. وعلى ضفاف المعارج، أصدرت سلسلة من الكتب الفقهية والفكرية، التي عالجت جانباً من مشكلات الواقع الإسلامي وتحدياته. وما زلت طامحاً إلى إنجاز ما يتسع له العمر من أعمال بحثية، ولا سيما في هذا المفصل الملتبس بأسئلة "الربيع العربي" ومستقبل الإسلام السياسي واختباراته القلقة واختلافاته العميقة. وقد انتهى بي الكدح إلى تأكيد منابذتي لأي حركة مذهبية أو طائفية أو فاشية دينية تستخدم وسائل العنف والإكراه في التعامل مع خصومها في الدين والقومية والسياسية.

هل من وسيلة لِردم هوة سوء ترجمة الفكر الإسلامي للغرب؟
إني ميال إلى تصويب حركة الترجمة في سياق تعارف الحضارات، من ذهنية ترجمة التراث، الذي استنزف الكثير من جهودنا وطاقاتنا، إلى ترجمة المنجزات الفكرية والأدبية والفنية المعاصرة. وفي ضوء ذلك آمل أن تخرج مشاريع الترجمة من عشوائية أعمالها فتقوم على تصحيح صورة الإسلام النمطية في فخيال الغرب وتؤسس من جديد، لفهم يساعد على تضييق الفجوة من مخاوف الغرب من الإسلام ومخاوف الإسلام من الغرب. ومن أجل ذلك نتطلع إلى ان يكون منهج الترجمة منهجاً علمياً وموضوعياً يتم التركيز فيه على أهدافنا الإنسانية الكبرى لتجيء أولويات الترجمة متناغمة مع أسئلة العقل الغربي وهواجسه وتطلعاته المستقبلية. ولقد فشلت الترجمة ذات الطابع الإعلامي ولم تقدم جديداً في مواجهة الحديث عن صدام الحضارات. وثمة في الغرب الثقافي والإنساني من يشاطرنا هم التفكير بصوت عال من أجل إنقاذ الحضارة ومعناها اللائق بوحدة الدين والإنسان. 

السابق
اعتصام فلسطيني أمام مكتب الأونروا في صور
التالي
أوغلو: تركيا سيكون لها تأثير أكبر على مجرى التاريخ من الآن فصاعدا