ماذا بعد غزّة ؟

توقفت الحرب على غزة مع اعلان اتفاق التهدئة برعاية مصرية وشهادة اميركية. التهدئة ستصمد لحاجة «اسرائيل» الى وقت لمراجعة حساباتها السياسية والاستراتيجية، ولاستكمال ترتيبات انتخاباتها المقرر إجراؤها بعد نحو شهرين. المقاومة الفلسطينية بحاجة الى وقتٍ ايضا لالتقاط انفاسها وتضميد جراح شعبها والتخطيط لمرحلة ما بعد دحرها عدوان «اسرائيل» الاخير.
ماذا بعد الحرب ؟
ثمة طرفان مقاومان رئيسيّان في غزة : حركة «حماس» وحركة «الجهاد الإسلامي»، وقد تعاونتا مع جبهات ومجموعات كفاحية راديكالية اخرى في مواجهة العدوان الإسرائيلي من خلال غرفة عمليات مشتركة. تعاونهما في الشأن العسكري لا يعني اتفاقهما بالضرورة على التعاون، بعد الحرب، في الشأن السياسي. «حماس»، ذات الجذور «الإخوانية»، عضو فاعل في منظومة الحركات الإسلامية التي توجهها القيادة العالمية للاخوان المسلمين. وبعد صعود الاخوان المسلمين الى السلطة في مصر، ابتعدت «حماس» عن «محور الممانعة والمقاومة» ومالت الى مماشاة سياسة مصر وتركيا وتونس وقطر حيال الأزمة السورية ما ادى الى ابتعادها تدريجاً عن ايران.
«الجهاد الإسلامي» حافظت على التزامها نهج «محور الممانعة والمقاومة»، كما حافظت على صلة حميمة بإيران وبموقف غير سلبي من النظام السوري. وخلال احتفالات النصر، حرص اركان «الجهاد» على الإشادة بإيران والتنويه بتزويدها المقاومة صواريخ «فجر – 3» و«فجر- 5».
يصعب على الحركتين، والحالة هذه، ان يكون لهما موقفٌ موحد من الأزمة السورية وإن كانتا ستحافظان على علاقات ودية وتعاون وثيق مع ايران.
غير ان «حماس» و«الجهاد» يجمعهما قاسم مشترك هو رفض خيار التفاوض مع «اسرائيل» الذي تعتمده السلطة الفلسطينية، كما تأخذان على السلطة تخليها عن خيار المقاومة وتمسكها بإتفاقات اوسلو رغم عدم التزام «اسرائيل» بها.
لا سبيل، اذاً، لقيام تعاون على الصعيد السياسي بين الحركتين الإسلاميتين من جهة والسلطة الفلسطينية من جهة اخرى. فالمفاوضات غير واردة حالياً بالنسبة لـِ «اسرائيل» المنشغلة بإنتخاباتها ولا للسلطة المنشغلة بمسألة الحصول على صفة دولة مراقبة في الامم المتحدة.
لا يبقى امام «حماس»، وكذلك «الجهاد»، من عمل مشترك على الصعيد السياسي سوى تزخيم الدعوة الى اعتماد خيار المقاومة في الضفة الغربية ومطالبة السلطة بعدم التعرض لأنصارهما الناشطين في هذا السبيل. هذا الامرلا يروق لأركان السلطة، ولا سيما لمحمود عباس تحديداً الذي كان تعهد بعدم السماح باندلاع انتفاضة ثالثة في الضفة. حتى لو تغاضت السلطة عن نشاط
انصار «حماس» في الضفة مراعاةً منها لمشاعر المبتهجين بانتصار فصائل المقاومة على «اسرائيل» في عدوانها الاخير، فإن حكومة نتنياهو، بالتنسيق مع قوى امن السلطة، لن تتهاون في قمع انصار «حماس» و»الجهاد الإسلامي» واعتقالهم واضطهادهم ما يؤدي الى تعقيد علاقة «الحمساويين» و»الجهاديين» بالسلطة.
إزاء هذه الإشكالية، ستجد «حماس» نفسها امام خيارين: إما تنشيط مساعي المصالحة مع السلطة وحركة «فتح» أملاً بكسبهما الى خط المقاومة، اوالضغط عليهما من خلال انصار «حماس» في صقوف فلسطينيي الاردن والقوى السياسية المؤيدة لـِ «حماس» كجبهة العمل الإسلامي «الاخوانية» وغيرها.
لا بوادر مشجعة لعودة عباس وأركان السلطة الى خيار المقاومة ومصالحة «حماس» على اساسه. ذلك سيدفع «حماس»، غالباً، الى اعتماد الخيار الآخر، اي تعبئة انصارها في صفوف الفلسطينيين والاردنيين للضغط على السلطة و»فتح» لحملهما على تغيير موقفهما المتحفظ من خيار المقاومة.
الى ذلك، ثمة من يعتقد بأن لدى منظومة الحركات الإسلامية العالمية التي يقودها الاخوان المسلمون المصريون خطة ترمي الى دعم جبهة العمل الإسلامي وحلفائها للصعود الى السلطة في الاردن، وأن «الحمساويين» الفلسطينيين والاردنيين يؤيدون هذه الخطة. اصحاب هذا الرأي (او المعلومات) يذهبون الى أبعد من ذلك. يقولون إن تنفيذ الخطة المذكورة يتيح لقوى ممالئة لـِ «اسرائيل» في اميركا واوروبا تحقيق ثلاثة مكاسب استراتيجية :
اولها، تسهيل تحقيق مشروع «الوطن البديل» بغية تسليم الفلسطينيين، وقد باتوا غالبية الشعب الاردني، قيادة الاردن بدعوى مساعدة فلسطينيي الضفة وغزة على تحرير اراضيهم المحتلة خلال حرب 1967 وربطها كونفدرالياً بدولة «الوطن الفلسطيني البديل».
ثانيها، استجابة مطلب «اسرائيل» الداعي الى عدم قيام دولة اخرى بين النهر والبحر، ما يشكّل بداية حل «مقبول» لقضية فلسطين.
ثالثها، ان تحويل الاردن الى وطن فلسطيني بديل بقيادة اسلامية «اخوانية» يتيح فتح الحدود الاردنية – السورية امام القوى الإسلامية المعادية للنظام السوري، كما قد يؤدي الى إخراج سورية من محور الممانعة والمقاومة وإضعاف ايران.
خطة «الوطن الفلسطيني البديل» دونها عقبات وصعوبات جمّة:
القيادات الراديكالية المتعاطفة مع محور الممانعة والمقاومة داخل «حماس» و»الجهاد الإسلامي» وغيرهما من فصائل المقاومة قد ترفض، غالباً، مشروع الوطن البديل ما ينعكس سلباً على الجهود الرامية الى دعمه بتعبئة «الحمساويين» و»الجهاديين»، ناهيك عن معارضة انصار الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في الوطن والشتات، ويؤدي تالياً الى تفشيل المشروع.
القوى السياسية العنصرية واليمينية في «اسرائيل» قد ترفض تأييد مشروع الوطن البديل اذا كانت قيادته ستؤول الى «الحمساويين « وغيرهم من الإسلاميين الراديكاليين انصار خيار المقاومة. لكنها ستتقبل المشروع، بل ربما تساعد في تحقيقه، اذا ما ضمنت ان قيادته السياسية والعسكرية ستكون في ايدى قيادات معتدلة ومتعاونة مع دول الغرب الاطلسي.
الاخوان المسلمون المصريون قد يحجمون عن تأييد مشروع الوطن البديل، ولا سيما اذا ما هبّ معارضوهم الاقوياء من عروبيين وناصريين ويساريين الى رفضه ومحاربته.
ثمة عامل آخر شديد الاهمية. إنه مصر وما سينتهي اليه وضعها المضطرب. ذلك ان لمصر دوراً مفتاحياً في الشأنين الفلسطيني والعربي، فما الدور الذي ستضطلع به في الحاضر والمستقبل ؟ هل ستشاطر تركيا موقفها من محور الممانعة والمقاومة وتندرج تالياً في التحالف القائم حالياً ضد سوريا وايران؟ ام ستنتهج سياسة خاصة بها بغية بناء تحالف عربي اسلامي متميز عن التحالفين الإقليميين المتصارعين ؟
ثم كيف ستتصرف الولايات المتحدة حيال هذه التحالفات القائمة وتلك التي ستقوم ؟ هل تنحاز الى احدها ام تحاول احتواءها على نحوٍ يؤمّن افضل حماية ممكنة لمصالحها ؟ وهل يمكن ان يكون لها موقف في هذا المجال مغاير لموقف «اسرائيل» وما تعتبره هذه مخاطر تمس بأمنها القومي ؟
اطرح السؤال مجدداً : ماذا بعد غزة ؟
لا جواب قاطعاً في زمن عدم اليقين.

السابق
مصر: الحرب الأهلية البنّاءة
التالي
إیران: إزاحة الستار غداً عن بارجة قاذفة للصواریخ