حوار “ساخن” مع أحد مستشاري خامنئي

– I –
المكافأة كانت سخية: غداء عمل في مطعم أميركي راقٍ.
مناسبة المكافأة: إعجاب أحد مستشاري المرشد أية الله خامنئي بالمحاضرة التي ألقيتها في مؤتمر خاص حول النفوذ الإيراني في الشرق الأوسط (نظمّه مركز الأبحاث "سينشري فاونداشن" في واشنطن قبل عامين)، وضّم إلى كاتب هذه السطور المستشار الإيراني وسفير بريطاني سابق في طهران.

في المحاضرة، كنت حريصاً للغاية على التشديد على أن الوجود الإيراني في الشرق الأوسط ليس، كما يصوَّر الآن في أجهزة الإعلام الغربية، أمر شاذ أو هو بمثابة خروج على منطق التراكيب الداخلية للنظام الإقليمي في المنطقة، بل هو جزء طبيعي من علاقات إيران مع بقية شعوب الشرق الأوسط منذ أيام قورش الكبير والشاه رضا بهلوي والإمام الخميني.
كما كنت حريصاً أيضاً على أن أُبلغ الحضور الأميركي الكثيف في هذا المؤتمر، بأن الغرب وليس إيران هو من بادر إلى شن الحروب بشكليها البارد والساخن على النظام الإسلامي الوليد، بدءاً من دفع عراق صدام حسين العام 1980 إلى الهجوم العسكري عليها، ثم فرض العقوبات الاقتصادية والدبلوماسية طيلة عقدين لأسباب متنوعة.
هذا الكلام حظي بترحيب حماسي من المستشار، فكانت دعوة الغداء الثنائية.

– II –
بيد أن هذه الحماسة لم تدم طويلا، حين بادرت إلى القول:" سعادة المستشار. لم يكن في وسعي أن أقول للأميركيين سوى ما قلته، لأني أجد نفسي معكم في مواجهة سياساتهم الشرق أوسطية التي لطالما ارتدت حلّة إمبريالية وإسرائيلية. لكن الآن، ولأن "الشيطان الأميركي" ليس ثالثنا، أسمح لنفسي أن أقول لكم أني غير مواقف قط على توجهات سياستكم الخارجية".
نظر المستشار إليّ باستغراب، وبدا واضحاً أنه لم يستفق بعد من صدمة الانتقال من حماسة العرفان بالجميل إلى الماء المثلج الذي شعر أنه سُكِب فوق رأسه. لملم نفسه حول الكرسي المخملي الأنيق ثم قال:" ماذا تقصد؟ هل تشير إلى البرنامج النووي، أم إلى علاقاتنا مع دول الخليج، أم إلى دعمنا لسورية وحزب الله في لبنان".
"لا هذه ولاتلك"، سارعت إلى القول. " أقصد أن قراركم بمواجهة الغرب على هذا النحو هو وصفة ممتازة ومتكاملة للخراب. إنكم تكررون حرفياً تقريباً مافعل الاتحاد السوفييتي حين انغمس في لجج حروب باردة وسباق تسلح وحروب بالواسطة مع الغرب، من دون أن يأخذ في الاعتبار موازين القوى الاقتصادية معه. والحصيلة هي ما رأيناه في أوائل التسعينيات".
رد المستشار: "لكن، ماذا تريدنا أن نفعل وأنت بنفسك قلت في المحاضرة بأن الغرب هو الذي بادر إلى الهجوم علينا؟".
– هذا صحيح. لكن هذا لم يكن يجب أن يدفعكم إلى التورط في مجابهات غير متكافئة القوى مع أميركا. كان في وسعكم الإفادة من نموذج الصين التي استعانت على الغرب بـ" الصبر التاريخي"، إلى أن تستكمل بناء اقتصادها الحديث، وإلى أن يبين الخيط الأبيض من الأسود في بنية وطبيعة النظام العالمي الجديد. لكنكم لم تفعلوا، بل اندفعتم إلى سباق تسلح باهظ التكلفة بالنسبة إليكم، وإلى تنافس على النفوذ الإقليمي أكثر تكلفة، فيما اقتصادكم لايزال عالمثالثي يحبو حبواً في عملية التنمية وكل ميزانيته برمتها لاتكاد توازي ميزانية السي.أي. آي. إنكم يا سعادة المستشار تسيرون بقدميكم إلى هاوية سحيقة".
رمقتني المستشار بنظرة حزن بدت كسيرة، ثم فاجأني بالقول:" ثمة جناح في السلطة الإيرانية يرى تماماً ما تقول أنت، لكنه لاحول له أو قوة بعد أن تبلورت مصالح ضخمة في إيران تتغذى من عملية المجابهة الفورية مع الغرب".
– وهل أنت من هذه الجناح؟"
ابتسم المستشار ابتسامة عارضة، وقال"الأفضل أن نواصل تناول الغداء.

– III –
لماذا تذكُّر هذه الواقعة الآن؟
لأن مايجري في إيران هذه الأيام يبدو أنه يؤكد وجهة النظر التي تقول بأن سياسة المجابهة والسباقات التي تمارسها إيران مع الغرب ستودي بها بالفعل إلى الهاوية.
وهنا نحن بالطبع نتحدث عن الأزمة الطاحنة التي يعاني منها الريال الإيراني، والتي تهدد في حال استمرارها وتفاقهما بإثارة عاصفة كاملة في وجه الاقتصاد، وبالتالي النظام، الإيرانيين.
فالريال تراجع بمعدل قياسي أمام الدولار بنحو 50 في المئة منذ تموز/يوليو الماضي. والعد لايزال مستمرا، حيث التآكل يواصل ضرب العملة الإيرانية كل يوم. اما الخطوة التي أقدمت عليها الحكومة وتمثلّت في إحياء نظام معدلات الصرف المتعددة للريال الذي فُرِض غداة انتهاء الحرب العراقية – الإيرانية، فقد يثبت بعد حين أنه كان قبلة الموت على جبين التوجهات الاقتصادية- الاجتماعية الراهنة.
لماذا؟
لأن من سيفيد من نظام المعدلات المتعددة سيكونون هم أنفسهم المسؤولون الفاسدون وأقاربهم ومعارفهم الذي أفادوا من النظام التعددي لفترة مابعد الحرب، والذين أثروا ثراء فاحشاً بسبب الفرق الكبير بين سعر الصرف المدعوم (12،260 ريالاً للدولار) وبين سعر السوق المفتوح (26،880 ريالاً للدولار).
وإذا ما أضفنا إلى ذلك العجز القياسي للميزانية هذا العام، الناجم عن فتح حكومة أحمدي نجاد الأبواب على مصراعيها أمام الاستيراد بقيمة 60 مليار دولار(الأمر الذي ألحق أضراراً فادحة بالصناعات المحلية)، فإننا سنكون أمام صورة غير زاهية البتة لمستقبل النظام الإيراني، خاصة وأن العمال والطبقات الفقيرة (ومعهم تجار البازار) بدأوا يتملمون من التدهور السريع في أوضاعهم المعيشية.
إن السبب المباشر لأزمة الريال الراهنة هي العقوبات المصرفية الأميركية والنفطية الأوروبية التي بدأت تؤتي أكلها. لكن هناك سبب أهم: تبديد موارد وطاقات وإمكانات إيران في سباق تسلح وتسابق على النفوذ الإقليمي مع غرب يتفوّق على بلاد الخميني بفارق فلكي. إذ أن هذا السباق لم يوهن الاقتصاد الإيراني وحسب، بل وضع أيضاً العربة قبل الحصان في ما يتعلق بالأولايات الحقيقية والضرورية للبلاد.
* * *
سعادة المستشار:
إن كنت تقرأ هذه الكلمات، فسيكون لي عظيم الشرف أن أدعوك أنا هذه المرة إلى غداء عمل، لأني متشوِّق بالفعل لمعرفة ماذا يقول الآن الجناح الرافض لسياسة المجابهة المكلفة في ضوء أزمة الريال الراهنة، وأيضاً لأني "أشك" بأنك أحد قياداته!

السابق
جنبلاط ابرق إلى العاهل الاردني معزيا بوفاة ملحس
التالي
ورشة عمل في النبطية عن “جائزة لبنان للسيدات المتميزات”