ماذا بعد خطاب أبو مازن؟

للأسف، فإن خطاب الرئيس الفلسطيني في الجمعية العامة للأمم المتحدة لم يحمل أية رؤية سياسية جديدة، إذ كان خطاباً عادياً، من حيث اللغة والمضمون، حتى بالقياس لخطابه في العام الماضي.
ما يجب أن تدركه القيادة الفلسطينية جيداً أن العالم، بقادته وحكوماته وشعوبه، ما عاد بحاجة إلى تقارير، أو معلومات عن حجم المستوطنات وعدد اعتداءات المستوطنين، ولا عن أحوال الفلسطينيين الصعبة والبائسة جراء السياسات الإسرائيلية. فثمة سفارات وهيئات ومنظمات دولية تعمل بنشاط في الأراضي المحتلة، وتصدر تقارير دورية دقيقة ومنتظمة عن كل ذلك.
وهذا العالم، أيضاً، ليس بحاجة إلى معلومات عن مواقف إسرائيل، في شأن استمرار الاستيطان في الضفة وتشبّثها بالقدس كعاصمة موحدة لها، وممانعتها الانسحاب إلى خطوط ما قبل حرب 1967، ورفضها حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة. فهي لا تخفي هذه المواقف، وإنما تجهر بها في كل المحافل، من دون أي مبالاة بالقرارات الدولية، بل إنها تصارع، في مواقفها، حتى الرئيس الأميركي ذاته، وفي الولايات المتحدة الأميركية ذاتها.
هكذا لم يكن ثمة داع لكلمة استغرقت 30 دقيقة تحدث فيها الرئيس عن كل الأشياء المعروفة، في حين كان الأجدى له، وللقضية التي يحملها، لو أنه ألقى كلمة موجزة، حمّل فيها الدول الكبرى، ولا سيما الولايات المتحدة الاميركية، المسؤولية عن انهيار عملية التسوية، وانسداد حل الدولتين، بسبب عدم بذلها الضغوط اللازمة لإجبار اسرائيل على الانصياع للقرارات الدولية. وقد كان منتظراً من الرئيس الفلسطيني أن يوضّح «خريطة الطريق» خاصّته لتغيير هذه المعادلة، ولو تـطلّب الأمر «قلب الطاولة». فمن غير المعقول الاستمرار على الطريق ذاته، بعد مضي قرابة عقدين على مسيرة أوسلو.
لا ينطوي هذا الكلام على أي مجازفة، إذ إن الرئيس الفلسطيني ذاته كان تحدث قبل أكثر من عام عن الكثير من البدائل والخيارات التي يمكن اعتمادها كبديل عن التعثر في عملية التسوية، ورداً على الصلف الإسرائيلي، وضمن ذلك إمكان حلّ السلطة، والذهاب نحو المقاومة الشعبية، وطرح الوصاية الدولية على الأراضي المحتلة. وفي اجتماع القيادة الفلسطينية، الذي عقد أخيراً في رام الله (15 أيلول / سبتمبر) طرح الرئيس مجموعة من الأفكار من ضمنها إسقاط اتفاق اوسلو وبروتوكول باريس الاقتصادي ووقف التنسيق الأمني مع إسرائيل، والتي خيّر فيها القيادة الفلسطينية بين رحيله أو تنظيم انتخابات تشريعية ورئاسية من دونه، في ما اعتبر من أخطر اجتماعات القيادة الفلسطينية.
نعم لقد آن الأوان لقلب الطاولة، من الجهة الفلسطينية، إذ بات التمسك بحرفية اتفاق أوسلو وتوابعه، من الاتفاقات الأمنية والاقتصادية، مجرد طوق يكبّل الفلسطينيين، ويشلّ حركتهم، فضلاً عن أن إسرائيل ذاتها تجاوزت، منذ أكثر من عقد من الزمن هذا الاتفاق، الذي كان يفترض أن ينتهي في العام 1999، مع بقاء هيمنتها على الفلسطينيين وتعزيزها الاستيطان في أراضيهم، وبنائها الجدار الفاصل، وانسحابها الأحادي من قطاع غزة، وفرضها الحصار عليه.
أصلاً، وفي معزل عن كل ما حصل، فإن القيادة الفلسطينية تتحمل مسؤولية حصر الفلسطينيين في خيار واحد، لأن هذا الوضع هو الذي سهّل على إسرائيل الإمعان في ابتزازها، وفرض الأمر الواقع عليها. ولعل معضلة الفلسطينيين تكمن في أن الطبقة السياسية المهيمنة لا تشغل نفسها في البحث عن بدائل وخيارات أخرى، بل إنها تشيع المخاوف منها، وربما تبالغ في ذلك، لسبب بسيط مفاده أن هذه الطبقة مدينة في مكانتها وامتيازاتها لكيان السلطة.
في هذا الإطار، ينبغي الاعتراف بأن كل الخيارات والبدائل الأخرى صعبة، ومعقدة، وربما خطيرة، لكن أخطر شيء هو الاستمرار في الوضع القائم، لعقد او عقدين آخرين. فحينها لن يتبقى للفلسطينيين شيء من أراضيهم، ولا من كياناتهم السياسية. في المقابل، ثمة الخيار الذي لوّح به الرئيس أبو مازن، والذي يتمثل بإسقاط اوسلو وإنهاء الاتفاقات الاقتصادية والأمنية.

وبديهي ان خياراً كهذا ينبغي الإعداد له، وضمن ذلك ربطه باستراتيجية سياسية، وكفاحية، حتى لا ينجم عنه فراغ قد تشغله إسرائيل بطريقة مباشرة او بالوكالة. وهذا الخيار يعني تسمية اسرائيل باسمها الصريح كدولة احتلال، وتحميلها مسؤولياتها بوصفها كذلك، والتحرر من دور الوكيل السياسي والإداري والأمن الذي يجعل من واقع الاحتلال الاسرائيلي للضفة أمراً مريحاً ومربحاً.
ثمة خيار آخر يتمثل بتحويل وظائف السلطة الفلسطينية، اي انهاء وظيفتها الأمنية والسياسية، كوكيل وحارس لأمن إسرائيل، وهذا يعني فك ارتباط من طرف واحد مع إسرائيل من جانب الفلسطينيين هذه المرة، وتحويلها الى سلطة وطنية حقاً، مهمتها إدارة أوضاع الفلسطينيين، وتسهيل مقاومتهم للاحتلال.
ومـن الـواضح أن هـذيـن الخيـارين يعنيان انهاء حال التماهي بين السلطة والكيانـات السياسية الأخرى، حيث مهمة السلطة ادارة احوال المجتمع الفلسطيني في الضفة والقطاع، في حين ان منظمة التحرير، وفصائلها، مهمتها الاستمرار بعملية التحرر الوطني، بما في ذلك الحض على النضال بالوسائل الممكنة والمشروعة، ضد اسرائيل.
هكذا، ففي الحالين يبنغي الانتهاء من حال الاحتلال المريح والمربح لإسرائيل، وينبغي ان يشعر الاسرائيليون بأن ثمة ثمناً للاحتلال وللاستيطان وللتعنت والغطرسة، لكن بالوسائل المجدية التي تضمن حث الانشقاقات، والتناقضات في المجتمع الاسرائيلي.
باختصار، أعتقد أن الفلسطينيين معنيون بأن يتسلحوا برزمة خيارات، وضمنها طلب الوصاية الدولية، لكن المهم هو عدم الانحصار بخيار واحد (حـل الدولة المستـقلة في الضفـة والقـطاع)، وضمن ذلك التسلح برؤية سياسية مستقبلية، تربط بين المرحلي والممكن والواقعي، وبين المستقبلي والمتوخى الذي يتلاءم مع الحقيقة والعدالة.
بمعنى أكثر إيضاحاً، فإذا كان حل الدولتين، المتضمن إقامة دولة فلسطينية في 22 في المئة من ارض فلسطين (كما حددها الرئيس في كلمته)، يعني في التطبيقات الإسرائيلية العملية، التي شهدناها خلال عقدين، مشاركة الإسرائيليين في هذه الـ 22 في المئة، في الأرض والمياه والأجواء والحدود والمناطق الامنية والمستوطنات والطرق المخصصة للمستوطنين، فإن هذا الوضع يستدعي استراتيجية مقابلة قوامها قلب الطاولة، بحيث يطالب الفلسطينيون بحقهم في الـ 78 في المئة من ارض فلسطين.
وهذا هو معنى التحول من مجرد صراع جغرافي على كيلومتر هنا وكيلومتر هناك، إلى صراع سياسي/قيمي، على مضمون العيش في أرض مشتركة، وفق القيم الديموقراطية الليبرالية، في دولة مواطنين، من دون اي تمييز بينهم.
هذا لا يعني القطع مع فكرة الدولة المستقلة، فهذه ستبقى في نطاق التداول، لكن ذلك يوسّع أفق هذه الفكرة، ويربطها بالتطورات السياسية والاجتماعية والاقتصادية في المنطقة، وبقيم الحرية والكرامة والمساواة والعدالة، التي تخاطب وجدان العالم، حكوماتٍ وشعوباً، أكثر بكثير مما تخاطبهم اسرائيل بمطلبها الاعتراف بها كدولة يهودية.
والحال، ثمة لكل شيء ثمن حقاً، وبدهي أن أية عملية تغيير ستكون لها عواقبها، والتحديات الناجمة عنها، لكن المبالغة في التخوّف من الذهاب نحو هذا الاتجاه لن تؤدي إلا إلى تعظيم المخاطر التي باتت تحدق بالفلسطينيين، وبحقوقهم الوطنية المشروعة.
هكذا، فإن ضياع الأرض لا يمكن الاستعاضة عنه في مجرد طلب عضوية كاملة او مراقبة في الأمم المتحدة، مع أهمية ذلك، وخسارة السلطة الفلسطينية مكانتها بين شعبها لا يمكن التعويض عنه في العلاقات مع اسرة المنظومة الدولية على رغم ما لذلك من معنى.
حسناً، فإذا كانت اسرائيل تريد مقاسمة الفلسطينيين في الـ 22 في المئة خاصتهم، ينبغي على الفلسطينيين في المقابل ان يقاسموها الـ «78» في المئة «خاصّتها». وبدلاً من العيش في دولة كانتونات، فليكن الكفاح من أجل العيش في دولة ديموقراطية علمانية واحدة؛ أليس هذا أحد أهم العناوين التي طرحتها الثورة الفلسطينية المعاصرة؟  

السابق
سوريّة: الامبراطوريّة والجمهوريّة الديموقراطيّة
التالي
الوضع رايح فيها