اقتراحٌ غير مُبكر على رئيس الجمهورية

كما يتسرّب الماء أو رطوبتُه من شقوق الحيطان الضعيفة البنيان إلى غرف المنزل بدأت تتسرّب في بعض الأوساط السياسية اللبنانية وجزئيا في بعض الصحافة البيروتية فكرةُ التجديد لرئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان بعد انتهاء ولايته حوالى منتصف عام 2014 .
طبعاً، وهذا تذكيرٌ لقارئ عربي وأجنبي قد لا يعرف، وليس لقارئ لبناني يعرف، ليس جديدا أن تعود السياسة اللبنانية إلى إحدى عاداتها السيّئة أو أن نتوقع عودتها…عادة الجدال حول التجديد لرئيس الجمهورية حتى في زمنٍ أصبح فيه النظام السياسي متعدّد الرئاسات ليس الدستورية فقط بل الطائفية أساسا وهي أربع "جمهوريات" طائفية إلى درجة أنه فقط في لبنان عندما تريد أن تعدّد رموز الصف الأول في النظام الطائفي فستضع سبعة أسماء ليس بينها رئيسا الجمهورية والحكومة في الوقت الحالي!
لكن حتى في زمن كهذا لم يعد فيه رئيس الجمهورية المحور الرئيسي للحياة السياسية اللبنانية تظل مسألة التجديد أو عدم التجديد له مسألة في غاية الأهمية لأن موقعه لا يزال مفتاح تمثيل الدولة اللبنانية وقادرا عبر صلاحياته(المتبقية) على التأثير في مصير مسارات أساسية للدولة اللبنانية.
الآن ورائحة التحولات التاريخية تملأ فضاء العالم العربي، تكتسب مسألة عدم التجديد بأي شكل وبأي مدة لرئيس الجمهورية اللبنانية، بغض النظر عن إسمه، معنى جوهريا لم يكن لها في السابق. إنه متّصلٌ بالمعنى الجوهري الأكبر الذي حَمَلَتْهُ ثوراتُ "الربيع العربي" وهو انتهاء زمن الحاكم الدائم بل "الأبدي" على كرسي رئاسة الدولة بل على أي كرسي سلطة سياسية رسمية. في أوقاتٍ عربيةٍ كهذه الأوقات التي تضعُ فيها النخبُ السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية حدا نهائيا لمقولة "ديمومة الحاكم الشخص" في الأنظمة الجمهورية و لمقولة السلطة المطلقة للحاكم في الأنظمة الملكية لا يستطيع لبنان أن يقدّم صورة باهتة عن عدم تداول السلطة حتى لو أنه لم يعرف بسبب نظامه الطائفي يوما حالة "الرئاسة الدائمة" ولا المطلقة الصلاحية.
الدكتور أسامة الغزالي حرب أستاذ العلوم السياسية المعروف وحاليا أحد سياسيي النخبة الليبرالية المصرية أدلى مرةً، وهو المنخرط في الثورة المصرية قبل نجاحها وبعده، برأيٍ لافت إذ قال أن النظام المصري الجمهوري منذ عام 1952 لم يضع آلية فعلية-لا شكلية- لانتهاء مدة سلطة رئيس الجمهورية بشكلٍ طبيعي أي بالتداول الإرادي. ولهذا لم يكن ممكنا أن تنتهي ولاية أي رئيس بعد العام 1952 إلا بالموت المفاجئ كما حصل لجمال عبد الناصر أو القتل كما حصل لأنور السادات أو الثورة كما حصل لحسني مبارك.
نحن في لبنان رغم العنف الذي واكب "نهاية" بعض الرؤساء كنا بعيدين تماما عن السياق المصري هذا. والعنف الذي تعرّض له بعض رؤساء الجمهورية والحكومة كان جزءا من عنف أشمل يطال غيرهم بمواقع أخرى في الدولة و الحياة العامة، قبل الحرب الأهلية وخلالها وبعدها، ولم يكن يخصّ وضعَهم وحدهم وبالتالي ليس العنف "الزعامتي" ظاهرةً متعلقة برؤساء الجمهورية وحدهم في النظام السياسي.
في لبنان مشكلتنا من آلية أخرى. صحيح أن دستورنا من جهة وتوازناتنا الداخلية من جهة أخرى تمنعان التجديد بسهولة لرئيس الجمهورية وإذا حصل فَلِنصْفِ مرةٍ قانونيا(الهراوي، لحود) أوصراعياً(بشارة الخوري) ولكن الظاهرة المتكرّرة هي أن الاضطراب البنيوي المتكرر للعلاقات السياسية الداخلية بما فيها داخل الطائفة المارونية وتأثرهذه العلاقات المباشر بالخارج يجعلان التفكير بالتجديد لدى رؤساء الجمهورية، بمعزل عن نجاح أو فشل خططهم، حالة متكررة تستهلك جزءا كبيرا من الطاقة الداخلية وتُؤذي بل و تُفسد بعضا من ثقافتنا وممارساتنا العامة في بلدٍ يشكو أصلا من الهُزال المتفاقم للدولة ومن التناقض المتزايد بين ضعف الدولة وقوة النظام السياسي.
لهذا نقترح على الرئيس ميشال سليمان، وهو رجلٌ لا شك باتزانه وبفهمه الدقيق للتوازنات التي أتتْ به رئيساً بغض النظر عن رأينا بمدى ضيق أو اتساع أفق أدائه المحلي، نقترح عليه أن يقطع دابرَ أي لغط محتمل في الموضوع خصوصا بعدما قال رئيس مجلس النواب أن معركة الرئاسة الأولى قد بدأت، فيعلن، أي سليمان، بكلمات حاسمة وغير قابلة لأي التباس، ليس فقط أنه لا يريد تجديدَ ولايته أو تمديدَها وإنما سيرفض ذلك حتى لو عُرضتْ عليه. بل ندعوه أن يدعو أي "مرجع" داخلي أو خارجي معنِيٍّ أن لا تُعرض عليه الرئاسة مرة ثانية لأنه سيرفضها بشكلٍ قاطع. ونقطة "العَرض عليه" نقطة مهمة جدا لأنه من الممكن- من يدري؟- أن تتشكّل لدى جهات إقليمية أو دولية بسبب تعقيدات الوضع اللبناني فكرة التجديد التي نرجو أن لا يضعف الرئيس سليمان أمامها (وهو بشرٌ مثلنا).
لهذا فالحكمة تتطلّب من الرئيس أن يبادر سلفا ومن الآن إلى جعل هذه الفكرة خارج أي تداولٍ جدّي فيبادر إلى تحويل موقفه من رفض التجديد ليس فقط إلى موقفٍ شخصي بل إلى معطى سياسي يحقّق هدفين:
الأول هو الحؤول دون تلاعب البعض معه في العزف على هذا "الوتر" من البداية،
الثاني هو تحويل موقفه القاطع إلى "نموذج" يُستفاد منه أن رئيسا لبنانيا تلقّن درسا أساسيا من التجربة السياسية اللبنانية المعاصرة وهو أن رئيس الجمهورية عليه ليس أن يرفض التجديد- فقد لا يُعرض عليه أصلاً- وإنما عليه، وهذا هو الأَهم، أن لا يسعى له. 
 

السابق
هكذا قتلنا الطفولة مرة أخرى … في بنت جبيل
التالي
الديبلوماسية الأمنيّة تتقدم بالتقسيط