يحيى الفخراني يراهن

«لا أحد يقدر على هدم مقام الحب»… بهذه العبارة ينتهي مسلسل «الخواجة عبدالقادر» الذي لعب بطولته النجم المصري يحيى الفخراني، وهي عبارة تصلح مفتاحاً لفهم المسلسل الذي كتبه عبدالرحيم كمال وأخرجه شادي الفخراني في أولى تجاربه.
فوسط زحام المسلسلات الرمضانية خطّ «الخواجة» مساراً مختلفاً بمعالجته المتميزة لموضوع «الحب»، مستنداً الى قصة واقعية تقوم على شخصية «سلام» أحد المهندسين الانكليز الذين عملوا في السودان ومصر خلال الحقبة الاستعمارية.
لم يهتم المسلسل بقصة التحول الديني بحد ذاتها، لكنه انشغل بفكرة الايمان، مستثمراً «ثيمة» الرحلة الشائعة في الادب، بداية من «ألف ليلة وليلة»، مروراً بـ»ايثاكا» كفافيس، وصولاً الى «الكيميائي» لباولو كويلهو.
وعبر هذا الاستثمار لدلالة الرحلة بوصفها مدخلاً لتأمل الذات ورؤية العالم، تابعنا تحولات أخرى في القيم الثقافية والاجتماعية التي تبناها «الخواجة» حتى وصل الى الايمان بالحب كقيمة عليا، وهي قيمة مركزية في الديانات كافة.
اشتغل النص التلفزيوني على مسارين للسرد الدرامي. غاص الأول في الماضي القريب متتبعاً رواية يقدمها المهندس «كمال» لزميله الموظف المسيحي ولافراد أسرته عن حكاية بطلها الخواجة «هربرت» وكيف بدأ عمله في محاجر السودان، كاشفا عن خلفيات تمزقه الوجودي. وهي خلفيات تجلت في أحلامه التي تحولت الى رؤى (بالمعنى الصوفي)، كان يرى فيها أحد مشايخ الصوفية الذين تعرف اليهم لاحقاً، لتتحقق رؤاه وتسير حياته بمنطق «من ذاق عرف». وتدريجاً تعمق ادراكه لفكرة الايمان التي بلغها بموسيقى روحية قادته الى الإسلام عبر طقس «الحضرة» المقترن في الممارسة الصوفية بسلوكيات يستدعى فيها «فن السماع».
أصبح «هربرت» في السودان «عبد القادر» الساعي الى اقرار العدل في محيط عمله قبل أن يغادر الى صعيد مصر ليلتقي هناك بالطفل «كمال» الذي ساعده على حفظ القران الكريم ليتلقي النص المقدس ببراءة بعيداً من أي تأويل وتصبح الطفولة مدخله الى ادراك عالمه الجديد.
وفي الصعيد وقع الخواجة في عشق «زينب» الصعيدية الارستقراطية التي يرفض شقيقها عبدالظاهر زواجها ويقاومه الى حد احراق جسد العاشق والمعشوقة ليلة زفافهما.
اما المسار الثاني فاتكأ على واقع الحياة في مصر المعاصرة كاشفاً عن تحالفات السلطة مع رأس المال العائلي المنغمس في الفساد، اذ يسعى ابن «عبدالظاهر» الى هدم ضريح «الخواجة» لنهب خبيئة الآثار الواقعة تحته بالتعاون مع رجال الحزب الحاكم. وهو مسعى يجد مواجهة من حفيد «عبدالظاهر» المؤرق بفساد عائلته ومن «كمال» الذي تكفل به الخواجة ورعاه بعد وفاة والده.
وفي ذروة المواجهة بين الأطراف يظهر طيف «الخواجة» داعياً «كمال» للعودة الى منزله لأن «لا أحد يقدر على هدم مقام الحب». وبينما يبدأ الأخير رحلة عودته الى البيت يسترد معه ابنه عالم الدين الشاب الذي حاولت السلطة اغواءه، وفي عمق الصورة عبارة مكتوبة على الضريح: «الناس موتى وأهل الحب أحياء»، فيما تتوالى على الشاشة مشاهد تستعرض التحولات التي عاشها كل الأطراف ليبدو الواقع المعاصر صدى تحولات نبتت جذورها في الماضي.
واللافت أن المؤلف لم يغزل معالجته الشيقة بمعزل عن الجدل القائم في المجتمع المصري حول حضور رجل الدين في المجال العام عقب ثورة 25 يناير وفضل الانحياز لصور «التدين الشعبي» الشائعة في المجتمع المصري حيث تعد ظاهرة التبرك بالأضرحة واحدة من الممارسات الشعبية التي تعبر عن الوجدان الجمعي، لكنه وضع بذرة تصوف بطله في السودان حيث تلعب الصوفية دوراً فعالاً في المجال العام.
وعلى رغم أن هذه الممارسة الصوفية الشائعة في مصر تعكس مدى شيوع العجز وقلة الحيلة والاغتراب الا أن المؤلف تجنب تلك الممارسة وما يحيط بها من سلبيات تقوم على نوع من «الاستلاب»، حيث يتجسد الوهم كطريقة للخلاص، وغاص باتجاه المعنى ودلالة النموذج الذي يمثله «عبدالقادر»، معتبراً أنه قادر على مواجهة نموذج التشدد أو رجل الدين الذي يتحالف مع السلطة ويبرر استبدادها في كل العصور.
تبنى المؤلف في نصه رسالة تنظر الى الدين وهو يشهد «رجرجة واضحة» كغيره من مخرجات العقل الجمعي، فتارة يكون مسؤولاً عن تسكين الأوضاع وتارة أخرى يكون الفاعل الرئيسي في ثوريتها على النحو الذي تجلى في المشهد الأخير حيث وجد أهالي القرية في حملة هدم الضريح مناسبة لمواجهة السلطة.
وساعدت على وصول رسالة المسلسل الصورة التلفزيونية التي قدمها بحرفية عالية شادي الفخراني الذي لم يقدم السودان ولا الصعيد من منظور استشراقي يركز على العناصر الغرائبية بمقدار ما راهن على تنوع الطبيعة الجغرافية لأماكن التصوير الخارجي وقدم توازنا بصريا حفل بالتنوع والانتقال السلس بين رمال الصحراء وعذوبة النهر. وهو انتقال لا يخلو أيضا من دلالة تعكس فهم المخرج لطبقات النص الدرامي.
وعلى رغم بعض الارتباكات التي شابت الصورة احياناً خلال عملية الانتقال بين أزمنة السرد البصري الا أن قدرة المخرج في احكام التناغم التمثيلي لنجوم المسلسل تغلبت على هذه الملاحظة، اذ ابدع يحيي الفخراني في شخصية «الخواجة» وقدم اداء تمثيلياً خالياً من الثرثرة، مراهناً على انفعالات جوانية تجلت في المشاهد التي جمعته مع محمود الجندي الذي بدا أداؤه أقرب لجمل تشخيصية تعزف على آلة الكمان من فرط ما فيها من شجو وشجن. كما لمع على نحو استثنائي الممثل الكبير أحمد فؤاد سليم الذي لم نعرف له دوراً بهذا العمق منذ ظهوره الخاطف في فيلم «المصير» مع يوسف شاهين. وأبدعت السورية سلافة معمار وهي تؤدي شخصية «زينب» بطريقة ترسخ لوجودها في ذاكرة المشاهد المصري كرقم يصعب تفاديه لدى تعداد نجمات الشاشة العربية.  

السابق
مايكل جاكسون على مرآة
التالي
مصرية تطلب الخلع بسبب انقطاع الكهرباء