عندما يرتد أشباه الفراعنة إلى أهراماتهم الكرتونية

التحالف بين العسكري والديني ليس صيغة مضادة فيما يُسمّى بسياسة الأمر الواقع، بل قد تكون من نوع الضرورة التي تفرضها ظروف التوزع غير المتكافئ ما بين القوى المتصارعة، تلك التي تمسك بمفاصل القوى الضاربة للدولة، متمثلة في مؤسسة الجيش والأمن البوليسي، وتقف مقابلها تشكيلات شعبوية من عامية المعارضة الدينية المباشرة.
فالجماهير العربية متديّنة بطبيعتها التاريخية، وهي عندما ينخرط بعضها في تشكيلات سياسية لا يمكنها أن تفصل في كفاحها اليومي، ما بين عقيدتها وسلوكها المعارض الذي تعتبره مسوّغاً أصلاً بقيم هذه العقيدة وأوامرها الإلهية.
هذه الجماهير عينها هي القواعد الشعبية الكبرى المؤهلة لحمل أعباء الربيع العربي، على تنوع أطيافها وتعدد تياراتها، لكنها في أصولها الإنسانية الاجتماعية هي صانعة الحدث العمومي، بصفته الشمولية هذه، وما تفعله الحزبيات والتنظيمات الأيديولوجية هو أن تقتطع شرائح معينة من بحر هذه الجماهير، وأن تدمغها بأسماء وهويات وعناوين معينة، تعطيها ثمة خصوصيات تميّز أصحابها عن بعضهم، وتخلق بينهم علاقات جذب أو طرد، وقد تفرّق أكثر من أن تجمّع، وبذلك قد تفقد صفة التعددية الإيجابية، لتحل مكانها عوامل التشتت والتنابذ، وبالتالي يتم تجاوز الانتماء إلى العقيدة الواحدة، نحو أطوار من التحريفات والمزايدات على مفاهيمها وحدودها الشرعية والتأويلية. هذا الذي سوف يجعل للإسلام، للدين الواحد، أسماء مزايداتٍ سياسية لا حَصْر لها، ولا علاقة صحيحة لأكثرها بالمرجعيات الأصولية في العقيدة التي تدعيها.
‘الربيع العربي‘ مُقْدم على مرحلة بركانية، من متفجرات التسييس الديني التي يراد لها أن تعصف تمزيقاً في كيانات الوحدات الطبيعية لشعوب الأمة، بدلاً من أن تدع الربيع يطلق قوى النهضة مجدداً في عروق المجتمعات التي خثّرها الاستبداد المزمن، وجعل أجيالها المتتابعة تعاني وتتوارث بطالةَ اليد وعطالةَ العقل معاً.
فإذا كان ثمة كلام عن ثورة مضادة تتهدّد هذا الربيع وهو في أوج ريعانه، وأصالة براءته الشبابية، فسوف تتشكل مادتها البشرية من جحافل هذه العامية الدينية، وتقودها بقايا الأنظمة السياسية المنهارة أو من هم من حاشيتها ومن صنائعها.
فقد كانت معظم هذه الأنظمة مفتقرة إلى صيغ القواعد الشعبية المنظمة، فتستعيض عنها بجذب الكتل الهائمة على وجوهها، المقودة هي ذاتها بنماذج مشيخية متشبّهة بدُعاة من زمن السلف الصالح. لا ننسى أن عصر النظام العربي القديم كان أساس الحكم فيه هو تحالف الإقطاع، أسروياً تقليدياً أو عسكرياً مستحدثاً، مع مؤسسته العامية الدينية المتسلطة على الحياة المدنية في المجتمع، بمعنى أن القروسطية العربية لا يضيرها أن تستمر نظاماً موصوفاً بالمعاصرة رغم مقاومتها الشرسة لكل تغيير، فلا بد أن يصطدم ‘الربيع‘ أولاً بالصروح الكبيرة القائمة والحاكمة تقريباً لمجمل الخارطة العربية، ثم أنه يصطدم ثانية في كل تجربة ثورية ينجزها حتى الآن بعودة هذه الأرومة المتجذرة، لتنتج حالة أفعوانية جديدة، كيما تلتف على الانتفاضات الشابة، فهي لا تزال قادرة على عقد تحالفات تختطف جوائز الربيع من أيدي ثواره قبل أن تشرع في تغيير أيٍّ من مصطلحات الاستبداد القائم أو مؤسساته. فلقد فوجئ رأي عام عربي وعالمي أن انتفاضات الربيع فرّخت أنظمة دينية، وأنها كسرت استبداداً سياسوياً كيما تقيم بديلاً عنه استبداداً غيبياً.
لكن المشكلة ليست فيما ولّدته هذه المفاجأة على مستوى الحكم والسلطة، بل هي فيما ستثيره على مستوى المجتمع الذي يتلقى الصدمة، ولا يدري بعد كيف يتدبّرها. لعله يدخل في عتبة مديدة من الترقب وانتظار إنجازات المولود السلطوي الجديد، هذا الذي يمكن اعتباره مجرد تحالف بين قوى أمر واقع، وقد أثبتت فعاليتها، وإن بطرق ديمقراطية لا تؤمن هي بها، وإن أتتها بانتصارات لم تكن تحلم بها بهذه العُجالة، وفي هذا الظرف الاستثنائي الموصوف بالثوري الحقيقي، لكنه لم يأت إلا بأشباه الثوار، أو بأعدائهم.. حتى اليوم.
هل هي نهاية الربيع العربي مصرياً؟ قبل حسم الإجابة فلنحاول تحليلاً إجتماعياً للحدث السياسي البنيوي الكبير الذي بلغه المدُّ الثوري في القطر العربي الأهم المكرّس قيادياً للحراك القومي الأشمل سلباً أو إيجاباً. فلا شك يلعب الاقتصاد دور المحور المادي لتحولات الأوضاع العامة في مجتمعات العصر الراهن، والثورة العربية الصاعدة محملة بكل أسبابها الاقتصادية الموجبة، لأنها ثورة الغالبيات الشعبية المحرومة من أبسط حقوقها الطبيعية، مقابل الفئويات القليلة المترسْملة، والطافية على سطوح مجتمعاتنا المتخلّفة بفعل مركّب القهر السياسي المغلّف بالفساد بأنواعه وأشكاله الظالمة الفاضحة، وفي العهد الفرعوني المديد قَبَضَ الجيش على ناصية التطور الاجتماعي انطلاقاً مما تبقّى من الثورة الناصرية بعد اختفاء قائدها، وهو ذلك ‘القطاع العام‘ الذي كان أخذ على عاتقه تنمية هذا المصطلح الاشتراكي: قوى الشعب العامل، كان ذلك بداية حركة تصنيع كبرى، وإنتاجية شعبية متنوعة استوعبت أجيالاً من العمال والفلاحين والمتعلمين وأرباب الحِـرَف والمهن الفردية والجماعية. كانت مصر آنذاك موشكة على تحقيق انقلاب كياني حضاري عادل، يُخرجها من فقرها الفرعوني الأزلي، لولا أن قدر المؤامرة الميتافيزيقية المعهودة قد أطاح بقائد المرحلة النهضوية الفريدة في تاريخ الاستقلال العربي الحديث.
هذه الحركة التصنيعية والتنموية الكبرى الممهورة باسم القطاع العام والصالح العام، بات مصيرها مرتهناً بتخاطفها بين الأيدي القذرة لرجال ‘الخصخصة‘ الذين كان أكثرهم من بقايا العسكر القديم أو أتباعهم، فقد أمست ثروات مصر الجديدة نهباً مستباحاً للزُمَر الصاعدة على هوامش الحقبة الديكتاتورية البائسة التي أعقبت إعفاء ثورة عبد الناصر من كامل إنجازاتها التاريخية، وفي مقدمها سرقة النهضة الاقتصادية من أيدي أصحابها الشرعيين، تلك الجماهير المسماة بقوى الشعب العامل، فبعد أن أنجز (أنور السادات) سحق روح الثورة، مع توقيع معاهدة الاستسلام للعدو الصهيوني في (كامب ديفيد)، كان عليه أن يلغي آخر حضور سياسي لقوى الشعب العامل بإلغاء حضورها الاقتصادي، فأعادها إلى حرمانها الفرعوني الأزلي، وأكمل الفرعون الأخير (مبارك) تصفية النهضة الناصرية بتمليك ضباطه لمشروعات التصنيع و(الاصلاحات) الزراعية والعقارية وسواها. هذا في الوقت عينه كان رجال ‘الإخوان المسلمين‘البارزين فرساناً ناشطين في أشكال الاقتصاد الكومبرادوري، أي الريعي.. هكذا تكونت ما يشبه طبقة من رأسمالية مالية أو ريعية، ذات أصليْن من الدعم، أحدهما عسكري سياسي يخص نظام الحكم الفردي القائم، والآخر شعبوي يرجع إلى عامية ‘الإخوان‘ ذات التواجد القاعدي الواسع، إنهما أصلان أو مصدران من المساندة المطلوبة لكل تسلّط اقتصادوي استثماري، لكنهما متنافران من حيث الاستقطاب القائم بين حديهما العسكري والشعبوي.
وإن كانا قابلين لتوافقات فوقية بحسب حصص في توزع المصالح والمنافع الفئوية.هذه هي اللوحة الاجتماعية التي تشكل خلفية الحدث السياسي الانتخابي الراهن.
فلنسأل أولاً: هل يمكن اعتبار قبول العسكر بدخول قائد إخواني إلى قصر الرئاسة المصرية، نوعاً من مصالحة بين قطبين مختلفين، لم يكونا متناقضين تماماً، بل لعلهما يتكاملان علناً وإرادياً، بعد أن كان ذلك ترميزياً تنافسياً في الحقل الاقتصادي على الأقل، وصراعياً حاداً في المجال السياسي والأيديولوجي.
هذا الصراع لن تتخلى عنه عامية الإخوان المستنفرة ليلاً نهاراً قائدها صار رئيساً لجمهورية مصر، إنه مشهد غرائبي يعبّر عن عمق الانفصام الذي يتجاوز الحالة الإخوانية عينها إلى الحالة الثورية المصرية عامة اليوم، فالسؤال هو عما ستفعله بقية أطياف الحراك الجماهيري إزاء هذا التغيير في شكل سلطةٍ هي خليط بين موالاة ومعارضة، هل يرى بعضها حقاً أن الثورة قد حققت إنجازاً، هل وصلتها بعض حقوقها، أم أنها تدخل عملياً في متاهة من المتناقضات قد تضرب وحدة الصف ما بين مكوناتها على الأقل. هل يمكن لبعض المكاسب في حصة سلطوية ما أن تعوّض عن كامل أهداف انتفاضة شعب الخامس والعشرين من كانون الثاني (يناير) 2011..؟
إنها حصة أشبه برشوة. والعامية الإخوانية هي التي عليها أولاً أن تدرك خطر هذه الألعوبة، فلا تفرح فرحتها العظيمة حين يجلس أحد رجالها في مقعد الفرعون. فهو لن يمتلك أكثر من وهم الجلسة هذه أو متعتها الملتبسة. فإمّا أن يصير إلى فرعون آخر، وإما أن يتحول إلى مجرد رمز يملك ولا يحكم، لكنه لن يكون قائداً حاكماً لثورة مصر.هذه النتيجة يعرفها منذ الآن مجتمع ‘ميدان التحرير‘، لن تتغير وقائعها إلا بقدر ما يستأنف هذا المجتمعُ نفسه حياتَه الثورية الأصيلة بطريقة جديدة ومختلفة، عليه أن يتخطى الوضع الذي هو فيه راهنياً، الموصوف بوضع الثورة المنقوصة. فقد أصبحت مشبوكة بنقيضتها، أي بالثورة المضادة، فالسلطة الموهومة التي اكتسبها فرعها الإخواني ستحمّل الثورة كلها عبئاً لا طاقة لها به، ستحرمها من كنزها الطبيعي، من براءة الصيرورة، ستجعلها مسؤولة عما لا تفكر به وعما لا تفعله ولا تختاره من كافة تلك التصرفات التي اعتادت الدولة الفرعونية أن تمارسها إزاء رعيتها، كأنما أمست الثورة شريكة للدولة في تحمل المسؤولية فقط، وليس في اتخاذ القرارات المفصلية، بل السيادية بصورة خاصة.
إن رئيساً مقصوص الأجنحة لجمهورية الدولة الفرعونية القديمة، لن يتاح له أن يغير من أهراماتها القائمة شيئاً من صخورها الدهرية، وقد يطول الزمن والمسافة المكانية معه ما بين موقع ميدان التحرير وقصر الرئاسة.
فالثورة باقية مستمرة في ساحاتها وشوارعها، مادامت أسبابها لا تزال فاعلة في كل ما يحرم الشعب من وسائل سيادته الحقيقية على مصيره الإنساني والحضاري.
وإذا كان للرئيس الإخواني أن يحقق بعض التواصل ما بين منصبه وقواعده..الثورية السابقة، فإنه مضطر أن يقرأ كل صباح على ذاته وفريقه العلوي الجديد، بعض الشروحات الأولية للحكمة المقدسة: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً. بادئاً بذاته أن يظل حراً حقيقياً.. أن يفعل كل ما يستطيع من أجل أن يسترد من العسكر صلاحيات رئيس فعلي كامل السيادة والقدرة الدستورية. وإلا فإنه سيبقى مجرد موظف من مرتبة عليا في جهاز دولة، مقونن سلفاً لأفعاله وأهدافه.. هذا ما خططت له رؤوس الثورة المضادة محلياً وإقليمياً ودولياً، فالثورة ممنوعة من الحكم، وإن هي حكمت فلن تسيطر إلا على أشباه عموميات لا واقع فعلياً يجسدها في حياة المجتمع أو في أنظمة أجهزته.
تحدي التغيير الربيعي ما زال يحبو في مدارجه الأولية بالرغم من كل ساحات الصراع التي افتتحها وخاض غمارها، إنه يكتشف قواه وإمكانياته بقدر ما يتصدّى لقوى أعدائه.وفي مصر ليس ثمة معركة إلا ولها دلالة تاريخية وشاملة منذ أن أسقط شبابُها آخرَ تماثيل الفراعنة، لكن عصر الدولة الفرعونية مازال ممسكاً بمفاتيح القيادة المفصلية لمشكلات الناس في السياسة والاقتصاد والدفاع، وأسياده العسكر وأعوانهم ليسوا مستعدين لتسليم أي منها طوعاً أو كرهاً، لا سيما أن الذين سيخلفونهم ليسوا سوى أرتال من الشباب الأغرار، أو هكذا يصفونهم، لكنهم هم أولئك الأغرار، بل أبطال الإرادة والتضحية والذكاء العصري الذين ابتدعوا ثقافة الربيع وفاجأوا بها نُخَبَ العالم، فلماذا لا يفاجئون شعوبهم ثانية بطراز آخر من حكومات العصر الشبابي وإنجازاته غير المتوقعة المفعمة بحيوية الحرية وشجاعة العدالة.. فليس هناك من فكرة تستحق أن يحيا الإنسان أو يموت من أجلها إلا فكرة الحياة نفسها، والشباب هم ينبوعها وفرسانها، شرط أن يرتد أشباه الفراعنة إلى أهراماتهم الكرتونية، شاؤوا أم أبوا!  

السابق
بين آل الحريري وآل المقداد
التالي
إيران اللامنحازة!