صـور: مـديـنـة الـبـحـر تـواجـه صـيـفـاً صـعـبـاً

يبدأ مدير مطعم «استراحة صور» محمد قانصو حديثه ممازحا: «إذا كان الله يعد المؤمنين في الجنة، بالخمر والعسل واللبن والحور العين، فما الذي يضير في تناول القليل من الخمر في الدنيا؟».
يشير قانصو في مزاحه إلى توقف عدد من مطاعم مدينة صور عن تقديم المشروبات الكحولية إثر التفجيرات التي شهدتها المدينة، ومن بينها الاستراحة التي تحتوي على فندق هو الأكثر شهرة في الجنوب.
لكن ذلك ليس السبب الرئيس الذي يؤدي إلى تراجع الموسم السياحي في صور، بل أولاً، تراجع القدرة الشرائية لدى المواطنين، وثانياً الوضع الأمني المضطرب في لبنان والمنطقة، وثالثاً سوء إدارة المعالم السياحية الجميلة للمدينة، وتتحمل مسؤوليتها وزارة السياحة والمديرية العامة للآثار.
ما بين المدينة الرومانية البحرية، ومحمية الشاطئ الرملي، ينكشف البحر المتوسط في واحد من أجمل مشاهده في لبنان، فتشعر أنك على وشك التقاط الشمس لدى مغيبها. صور مدينة تملك مقومات جذب السياح من أنحاء العالم، لكن ذلك لا يحصل، كأن أحداً لم يلمس جمالية الموقع الذي شهد الاستيطان البشري منذ الألف الثالث قبل الميلاد. فلا اهتمام بترتيب الأماكن الأثرية بالمستوى الذي نشاهده في الأماكن الأثرية في العالم، ولا رصف للطرقات بالحجارة الصخرية، وجعلها للمشاة، مثل جميع المدن السياحية البحرية.
تغطي الأعشاب اليابسة آثار المدينة الرومانية، وتنتظر المطاعم البحرية مغتربين موعودين في صيف رمضاني. وبالتالي فإن الإفطار سيكون الوجبة الرئيسة، بينما ألغيت «مهرجانات صور» الصيفية لهذا العام، وما زال ميناء الصيادين يخضع للتأهيل، بعد ترميم الواجهة البحرية المقابلة للميناء، فيبقى شاطئ المحمية الأكثر انتعاشاً بروّاده، وهو الشاطئ الرملي الأكثر اتساعا على امتداد الشاطئ اللبناني.
يصف صاحب أحد المطاعم البحرية، «أليسا» حسين الأشقر، الوضع الاقتصادي بـ«التعيس»، ويضيف: «الوضع السياسي المحيط فينا مضطرب، من المخيمات الفلسطينية.. إلى سوريا. والكهرباء أصبحت قضية تنعكس على مجيء المغتربين. ثم جاءت المتفجرات لكي تؤدي إلى المزيد من التراجع». يبدأ الموسم السياحي عادة في الخامس عشر من حزيران، لكنه تأخر هذا العام. «وكما يُعرف فإن الاعتماد هو على المغتربين أكثر من السياح الأجانب، بالإضافة إلى قوات «اليونيفيل». وعندما يسمع المغتربون الأخبار السلبية، يتريثون في المجيء، وبعضهم يتراجع عن قراره في تمضية عطلة الصيف في قريته أو مدينته». ويقدر تراجع زوار المطاعم البحرية بنسبة «خمسين في المئة عما كان عليه الوضع العام الماضي».
يوضح محمد، وهو صاحب محل «كوكسينيل» لبيع «الأنتيكا» على الخط البحري نفسه، أن تراجع المبيعات يعود إلى أربعة أشهر مضت، مشيراً إلى أن «بوادر المغتربين تبدأ الظهور في أواخر أيار، لكنهم تأخروا». يضيف أن أقارب أحد أصدقائه يأتون إلى لبنان كل صيف، لكنهم قرروا هذه السنة عدم المجيء، بسبب الوضع الأمني المضطرب، وانقطاع الكهرباء والمياه معا.
تشرب مدينة صور من برك رأس العين المعروفة، وتعيش وفرة مياه، ولكن انقطاع التيار الكهربائي، يؤدي إلى انقطاع المياه أيضاً. وينقل محمد عن أحد موظفي شركة المياه أن لا مازوت لتشغيل مولدات الضخ، فيما «يتقاضى أصحاب المولدات الخاصة بالمنازل والمحال، مبلغاً يراوح بين مئة وخمسين ومئة وثمانين ألف ليرة، بدل الاشتراك عن كل خمسة «أمبير» شهرياً، بسبب ساعات الانقطاع الطويل».
في «فندق موريكس»، يروي المدير محمد خلف أن جميع زبائنه من قوات «اليونيفيل»، كانوا يأتون إلى الفندق مع أسرهم، لكن بعد التفجيرات تراجع عددهم، وبعد تحسن الوضع تدريجاً، عادوا لزيارة الفندق لكن مع أصدقائهم فحسب. وكانت إدارة الفندق تقدم الكحول في إحدى صالاتها، ثم توقفت عن ذلك قبل سبعة أشهر، وأصبحت تعتمد على «الكوبلات» التي ترغب في الجلسات الرومانسية.
تغيرت نوعية الزبائن، ولكن العدد ما زال نفسه، يقول محمد، وينتقد التقصير السياحي تجاه صور: «يجد السياح في جميع أنحاء العالم من يستقبلهم في المطارات، وينقلهم في الباصات إلى الأماكن السياحية التي يقصدونها، بينما لا يوجد حتى إعلان واحد عن صور في المطار».
ومثل العديد من شباب الجنوب، يشرح أحمد (اسم مستعار)، وهو يعمل في مطعم إيطالي، نظرته إلى الكحول قائلاً إن عدداً كبيراً من الزبائن يرغب في تناول الكحول، وبينهم طبعاً قوات «اليونيفيل»، لكنه شخصياً اشترط للموافقة على العمل في المطعم عدم تقديم الكحول. يضيف: «أتناول القليل من الكحول مع أصدقائي، ولكن لا أبيعه للآخرين، أستطيع أذية نفسي ولكن لا أريد أذية الآخرين». وتكون تلك الجلسات، بعيداً من عيون الأهل المتدينين، فهو متزوج ويعيش في منزله الخاص.
ويشير إلى أن نسبة سبعين في المئة من المطاعم البحرية توقفت عن بيع الكحول، معتبراً أن البيئة الاجتماعية لا تسمح بذلك.
فنادق من أجل «اليونيفيل»
من الواضح أن الفنادق أقيمت في صور من أجل قوات «اليونيفيل» وبعض المغتربين، ويبلغ عددها أربعة، باستنثاء «استراحة صور»، بينها «فندق كوين اليسا»، الذي تعرض مطعمه للتفجير ويجري تأهيله حالياً، لكن مع تحويله إلى مطعم لبيع المشاوي، سيُعاد افتتاحه آخر الشهر الجاري. يملك الفندق المغترب في ألمانيا حسن مغنية، بينما أوضح شقيقه أن كلفة إعادة تأهيل المطعم بلغت مئتي ألف دولار لأنه دُمر تقريباً، بالإضافة إلى تكسر زجاج واجهات الفندق. ولدى زيارة الفندق لم يكن يوجد فيه سوى زبون واحد، بينما يأتي يومي السبت والأحد أربعة أو خمسة زبائن. يبلغ إيجار الغرفة يومياً بين ستين وسبعين دولاراً. ويقول شقيق حسن إن كلفة ترميم الفندق وتأهيله بعد شرائه كلفت نحو مليون ونصف مليون دولار، لكن تبين أنه تجارة خاسرة، فقد كان يملك شقيقه مطعم «دوني إدواردو» في وسط بيروت، وأقفله بسبب الأزمات السياسية والأمنية، وينوي حالياً نقل مطعمه إلى دبي، بينما سيبقي الفندق مفتوحاً.
توقف في «استراحة صور» بيع الكحول للمرة الأولى منذ افتتاحها، ويستبعد مدير المطعم محمد قانصو أن تكون التفجيرات تعبيراً عن حالة رفض اجتماعي، لكنه يضيف: «لقد اضطررنا إلى مجاراة الوضع، فلدينا موظفون ينامون هنا، ولا نستطيع المخاطرة بحياتهم. وتقيم قوات «اليونيفيل» مكتباً إدارياً لها عند مسبح الاستراحة». ويوضح أن الجنود كانوا يأتون مع أسرهم للتنزه والسباحة، وبسبب الوضع الأمني، أصبحوا يأتون وحدهم، وفي حال أرادوا رفقة أسرهم، فعلى مسؤوليتهم الخاصة، بعدما اتخذت قيادتهم قراراً بعدم تحمل مسؤولية الأسر. ويقدر «تراجع نسبة الزبائن بنحو خمسة وعشرين في المئة عن العام الماضي، ولكن ليس بسبب توقف الكحول فحسب، بل لأسباب اقتصادية لأن الزبائن الذين كانوا يتناولون الكحول نحو عشرين في المئة».
عمل قانصو قبل صور في منطقة «سوليدير»، وفي برمانا، ويؤكد أن عدد الزبائن في المكانين لم يكن يساوي عدد زبائن الاستراحة.
لماذا لا تكتظ المدينة الرومانية بالسياح؟
تبدو صور، الرومانية والفينيقية، أقرب إلى الهجران، بدل أن تكون، بمساحاتها الواسعة، مكانا مكتظا بالسياح. وذلك هو سوء الإدارة عينه، فلا توجد مناطق بحرية عند المتوسط أكثر جمالا من صور، لكن العناية بتلك المناطق تجعلها أكثر جمالا. تغطي الأعشاب البرية أرض المدينة الرومانية، في انتظار حصول المديرية العامة للآثار على الموازنة الضئيلة من الحكومة، من أجل استئجار عمال وتنظيفها. ومن المعروف أن صور الحالية، تقوم جميعها فوق أنقاض المدينة الرومانية، وقبلها الفينيقية، ولكن ما تم كشفه من الآثار يمتد على مساحة خمسمئة ألف متر مربع، تنقسم بين الملعب الروماني عند مدخل البص، وبين المدينة البحرية.
لقد تقاعد آخر عمال التنظيف من دون تعيين غيرهم، فيعتمد مكتب آثار صور على الأجراء الموسميين، كما لم يعد يوجد سوى حارس واحد في كل من الموقعين، بينما يحتاجان إلى ثلاثين حارسا. ويوضح مسؤول مكتب صور في المديرية العامة للآثار علي بدوي أنه يتم حاليا تأهيل مدخلي الموقعين ومكتبي الدخول، والحمامات. لكن موظف مكتب قطع التذاكر عند المدينة البحرية كان يتصرف كأنه في منزله، يجلس مع عائلته في ظل الشجرة ويشربون الشاي، فيقول بدوي إنه يجب أن يكون لدى جميع موظفي قطع التذاكر والحراس في المواقع الأثرية أزياء موحدة أو متشابهة، كما هي الحال في الأماكن الأثرية في العالم، لكن ذلك لايحصل في لبنان. وفي حين توجد إنارة في الملعب الروماني، فإنها لا تضاء ليلا سوى في أيام المهرجانات. أما المدينة البحرية فلم توضع لها إنارة أصلا، لكي يبقى ضوء القمر فوق البحر مصدر النور الوحيد. وقد تراوح عدد السياح في السنوات الماضية، حسب بدوي بين خمسة عشر ألفا وعشرين ألفا، ومن غير الواضح كيف ستكون النسبة هذا العام. وتبلغ ثمن تذكرة الدخول للمواطن اللبناني ثلاثة آلاف وخمسمئة ليرة، وللأجنبي ستة آلاف ليرة.
محمية الشاطئ أكثر ترتيبا
يبدو كل شيء عند شاطئ محمية صور الرملي، منظما، فقد تدخلت بلدية صور بقوة لتنظيم استثمار الخيم البحرية في موسم الصيف، وخبر العاملون فيها عاما بعد عام أهمية النظافة والترتيب، لجذب رواد البحر، وتأمين راحتهم.
ويبلغ عدد الخيم تسعا وأربعين خيمة، تملك كل واحدة منها حيزا يمتد على مسافة تراوح بين ثمانية وعشرة أمتار واثني عشر متراً، أقيمت فيه خيم صغيرة للزبائن، بينما تحولت الخيم الرئيسية إلى ما يشبه المطاعم. وتبلغ قيمة بدل استثمار كل خيمة مليونا ومئتي ألف ليرة شهريا، لمدة ثلاثة اشهر هي حزيران وتموز وآب، مع السماح بالبقاء شهر ايلول مجانا. وقد تم تقسيم الخيم إلى خمس مجموعات، يتولى مستثمر إحدى الخيم مسؤولية كل مجموعة بالانتخاب، يجتمعون بشكل دائم مع المسؤولين المعنيين في البلدية. ويقول أحد مسؤولي المجموعات حبيب بدوي إن المسؤولين، يتولون مراقبة النظافة ونوعية الأطعمة المقدمة، وتأمين الخدمات للزبائن، إذ تضم كل خيمة غرفا للاغتسال، وحمامين نسائيا ورجاليا، بالإضافة إلى حمام عربي، ومياه شرب وكهرباء. ويدفع صاحب الخيمة مبلغ ثلاثمئة وثمانين ألف ليرة، بدل الاشتراك في كل عشرة امبير شهريا، لأنه يحصل على الكهرباء يوميا لمدة اثنتي عشرة ساعة. ثم خمسين ألف ليرة على كل خمسة أمبير زيادة. فيبلغ بالتالي ما يدفعه بدوي بدل الاشتراك في كل عشرين أمبير، أربعمئة وثمانين الف ليرة شهريا.
ويؤكد بدوي وجود خزانات خاصة لتجميع مياه المجاري الصحية، بقرار من البلدية، ومن ثم تفريغها في مكان خاص بتكرير مياه المجاري، نافيا وجود أي تمديدات إلى البحر. كما يوجد فريق انقاذ يتألف من تسعة منقذين، يراقبون الشاطئ على مسافة ألف وخمسمئة متر، مع سيارة تابعة للصليب الأحمر، وقد وضعت أعلام تشير إلى أماكن التيارات البحرية. ويلفت إلى أن الشاطئ يغص يومي السبت والأحد بالرواد، «حتى نعتقد أن كل محبي البحر في لبنان جاؤوا إلينا».
الميناء ينتظر الانتهاء من تأهيله
انتهى ترميم المنازل عند الواجهة البحرية لميناء صور، والمعروفة بحارة المسيحيين، لكن الميناء لا يزال ينتظر الانتهاء من تأهيله، وقد لا يحصل ذلك خلال الصيف الحالي. يفترش الصيادون شباكهم لتصليحها، ويقول الصياد حسين سكماني إن موسم الصيد تراجع كثيرا بعد مجيء قوات «اليونيفيل»، فلم يعد يسمح لنا بالصيد سوى على بعد ستة أميال من الشاطئ، على أن يحمل كل منا جهاز إرسال بحري، للتواصل مع مخابرات الجيش. ومن المعروف أن القوات البحرية الألمانية هي التي تتولى عملية مراقبة الشاطئ الجنوبي، في إطار قوات «اليونيفيل». ويوضح حسين أن الصياديين كانوا قبل مجيء «اليونيفيل» يصلون إلى بعد سبعة أو ثمانية أميال، ويصطادون خلال شهور أيار وحزيران وتموز، أسماك «العرموط والتونا والأشرب الأحمر»، التي لا توجد إلا على بعد سبعة أميال من الشاطئ، وعلى عمق خمسمئة متر. كانوا يعتمدون عليها في موردهم السنوي، بينما يصطادون حالياً القليل من أسماك «الفريدي واللقز»، فلا يحصل الصياد على أكثر من ثلاثمئة ألف ليرة منها شهرياً، لذلك يعتمدون على تأجير مراكب الصيد للنزهات البحرية.
  

السابق
احمد قبلان: على السياسيين تحسين الأداء
التالي
الاحتلال يستعد لإكمال جدار الفصل العنصري