المستقبل بعد الحوار: التـوافق صفر

انتهت طاولة الحوار الوطني إلى تأكيد المؤكد: لا يتزحزح حزب الله وتيّار المستقبل عن موقفيهما المتصلّبين من سلاح المقاومة. صارت الاستراتيجيا الدفاعية في طبعات ثلاث. واحدة لكل منهما، وثالثة لرئيس الجمهورية. هكذا باتت آمال التوافق صفراً. لكن الطاولة مستمرة

إثر انتهاء الجلسة الثانية عشرة لطاولة الحوار الوطني الإثنين الماضي، أجرى الرئيس فؤاد السنيورة وبعض المحيطين به في تيّار المستقبل تقويماً أولياً لما أفضت إليه، وكرّست انقساماً حاداً بين التيّار وحزب الله حيال سلاح الأخير الذي أصرّ عليه. وخلص التقويم إلى ملاحظات، من بينها:
1 ــ ثبّت رئيس كتلة الوفاء للمقاومة النائب محمد رعد موقف الحزب من السلاح على نحو لا يفسح في المجال أمام أي تشكيك في تمسّكه بنظرته هو إلى الاستراتيجيا الدفاعية التي يريدها، وهي استقلال المقاومة عن الجيش وإبقاء سلاحها في يدها وفي منأى عن الدولة. وأكثر من أي وقت مضى، كرّس الحزب تناقضه مع تيّار المستقبل وقوى 14 آذار، ولم يرسل أي إشارة إيجابية إلى مرونة محتملة على أفكار جديدة حيال مصير السلاح.

2 ــ لم تسفر الجولة الأخيرة من طاولة الحوار عن أي تقدّم في مناقشة سلاح حزب الله، وقادها الجدل المستفيض إلى متاهات السلاح. ثم إلى مواضيع لا تمت إليه بصلة مباشرة، ولا إلى سلاح المعسكرات الفلسطينية عندما استطرد بعض المتحاورين فخاضوا في مزارع شبعا وترسيم الحدود مع سوريا والأوضاع المعيشية للمخيّمات الفلسطينية وتنميتها، وفي الغاز، بعيداً عن السعي إلى موقف جدّي وحقيقي من مصير سلاح الحزب.

3 ــ لن تدفع النتائج السلبية للجلسة تلك إلى أي تفكير في مقاطعة الجلسات المقبلة للحوار، ولن يكون تيّار المستقبل وحلفاؤه في قوى 14 آذار في وارد الانقطاع عنها، خصوصاً أن رئيس الجمهورية ميشال سليمان تحدّث عن تصوّر لديه سيعرضه في 24 تموز، ممّا يُحتّم منح الرئيس فرصة إضافية لمدّ الحوار بقواسم مشتركة حيال مصير سلاح الحزب. تذهب قوى 14 آذار إلى الجولة المقبلة للإصغاء إلى تصوّر رئيس الجمهورية. وهو سبب كاف كي لا تحمل الجلسة الثالثة عشرة قبل أن تنعقد وزر ما آلت إليه الجلسة الثانية عشرة. بل ينظر إليها تيّار المستقبل على أنها استحقاق رئيس الجمهورية قبل أي طرف آخر إلى طاولة الحوار.

4 ــ لم يطرح السنيورة استقالة حكومة الرئيس نجيب ميقاتي كهدف في ذاته، وإنما كجزء من خطة إنقاذية يتوافق عليها طرفا طاولة الحوار، تخوض في كل أسباب الاضطراب الأمني بدءاً بالسلاح الفلسطيني خارج المخيّمات مروراً بسلاح المدن وأمن الحدود الشمالية والشرقية مع سوريا والمرحلة الانتقالية المرتبطة بوضع سلاح حزب الله في إمرة الدولة اللبنانية. مع ذلك، يدرك السنيورة وتيّار المستقبل وحلفاؤهما أن الفريق الآخر لن يوافق على إطاحة حكومة ميقاتي في الوقت الحاضر، ولا تعدو الاقتراحات المتداولة ذرّاً للرماد في العيون. قبل ذلك أرسل حزب الله إشارات إلى السعودية أوحت بانفتاحه على تغيير حكومي، فلم تصدّقها المملكة تماماً.

5 ــ تطابقت مطالعتا السنيورة والرئيس أمين الجميّل واتسمتا بمنحى إيجابي وصلب. ورغم تمايز موقفي الرجلين، وكذلك بين الجميّل وتيّار المستقبل وحلفاء آخرين في قوى 14 آذار من الأزمة السورية والنظام السياسي اللبناني وبكركي، تحدّثا بلغة واحدة من سلاح الحزب. يلتقي الرجلان على البقاء إلى طاولة الحوار، وعلى أن الوضع خطير ويتطلّب تغييراً حقيقياً عبر صراع سياسي وتصعيد رفض السلاح على الطاولة وخارجها لتثبيت ربط نزاع. الخروج من طاولة الحوار غير مُجد، كما أن استمرار الاشتباك السياسي لا يقتصر عليها، بل يشمل آلاف الساعات على القنوات التلفزيونية وعلى آلاف صفحات الجرائد.
لا يحجب ذلك استمرار تباين الرأي في تيّار المستقبل بين مَن يريد المضي في الحوار، ومَن يريد الخروج منه.لكن التقويم الاولي هذا، المطبوع بمسحة تشاؤم، أبرَز لتيّار المستقبل معطيات:
أولها، رغم مشاركته في طاولة الحوار بلا أوهام حيال ما يمكن أن يتوقعه من حزب الله، إلا أن مداخلة السنيورة وحلفائه توخّت تسجيل مبدأين لا يسع أي من الجالسين إلى الطاولة إنكارهما:

ــ تأكيد التوافق الوطني على دولة واحدة وسلطة مركزية واحدة تستظلان الدستور، والعمل عبر طاولة الحوار على تحقيق الهدف الذي يؤول إلى الدولة الواحدة هذه. لاحظ تيّار المستقبل أنه التقى ورئيس الجمهورية على هذه المقاربة التي أبرزها سليمان في جدول أعمال طاولة الحوار. إلا أن ما يعوزها تكريسها في إعلان مشترك على غرار «إعلان بعبدا» الذي صاغه الرئيس لجلسة 11 حزيران، واستوحى الكثير من بنوده من مبادرة الإنقاذ الأخيرة لقوى 14 آذار.
ــ تحييد لبنان عن المحاور الإقليمية والدولية الذي أقرّه «إعلان بعبدا»، وشكّل قاسماً مشتركاً مع حزب الله قبل أن يتنصّل منه لاحقاً ويقلّل أهميته.
ثانيها، حضر رعد إلى طاولة الحوار بمطالعة بالغة الوضوح والتصلّب في آن، وهي الإصرار على استراتيجيا دفاعية لحماية لبنان تنطلق من الاعتراف بكيانين عسكريين مستقلين هما الجيش والمقاومة، والحضّ على التوافق على إيجاد الوسائل الكفيلة بتكاملهما. لم يكن الموقف جديداً، وكان الحزب قد كرّره إلى طاولة الحوار وخارجها، إلا أنه لم يُشر مرة ــــ وبالنبرة التي أفصح عنها الإثنين ــــ إلى الإصرار على هذه الثنائية. في ما مضى تذرّع بالبيانات الوزارية للحكومات المتعاقبة عن معادلة الجيش والمقاومة والشعب. واقترنت هذه الحجّة بغطاء السلطات الدستورية، وبذرائع وأعذار شتى من دون أن يجهر الحزب تماماً بأن لا استراتيجيا دفاعية إلا في ظلّ جسمين منفصلين كلياً ومتجاورين هما الجيش والمقاومة، يقتضي السعي إلى تكاملهما وفق رؤية الحزب نفسه. يُمارس الاستراتيجيا الدفاعية من دون إظهار تناقضها مع الدستور وكيان الدولة الواحدة والسلطة العسكرية الواحدة.

أبرَزَ حزب الله تناقضاً حاداً بينه وبين قوى 14 آذار ورئيس الجمهورية على السواء عندما حدّد الاستراتيجيا الدفاعية على نحو ما يريده من تلك الثنائية، وعندما تجاوز الأسئلة التي طرحها سليمان في البند الأول من جدول الأعمال (أين ومتى وكيف).

ثالثها، لا يسع تيّار المستقبل الموافقة على هذه القاعدة التي لا تكتفي بنقض الدستور وتقويض الدولة الواحدة والسلطة المركزية الواحدة، بل تفضي إلى أخطار خارجية وأخرى داخلية تهدّد الوحدة الوطنية وتلوّح بتفكيك الدولة وتجزئتها بين سلطتين ومن ثم تآكلها، وتتسبّب بتفشي السلاح. حمل ذلك السنيورة على مخاطبة طاولة الحوار بالدعوة إلى الانتقال من وضع غير طبيعي إلى وضع طبيعي، لا تكريس الوضع غير الطبيعي، متحدّثاً عن تهديد حقيقي ناجم عن استمرار إصرار حزب الله على الاحتفاظ بسلاحه. وحضّ على بدء مسار هذا الانتقال الذي يستغرق وقتاً، إلا أنه يؤول إلى تكريس الدولة الواحدة. عدَّ الحوار الدائر بلا جدوى ما لم ينطلق من قاعدة ثابتة هي الوصول إلى الدولة الواحدة بتوافق المتحاورين. بعد ذاك يجري الحوار على المرحلة الانتقالية للوصول إليها.
رابعها، يدرك تيّار المستقبل مدى تعاظم القوة العسكرية لحزب الله التي أضحت ترسانتها الثقيلة والفاعلة شمالي نهر الليطاني أكثر منها جنوبي نهر الليطاني نظراً إلى الأسباب التي أملاها على الحزب القرار 1701، وهو وافق عليه. لكن التيّار يدرك أيضاً أن حزب الله ليس جاهزاً، ولن يكون مرة جاهزاً للبحث في خيارات لسلاحه خارج نطاق موقعه ودوره كعنصر ملازم لمحور استراتيجي تقوده إيران. للجمهورية الإسلامية استراتيجيا دفاعية يدخل الحزب في صلبها القوي بحجج سياسية، ولكنها كذلك عقائدية ودينية.

يعي تيّار المستقبل تماماً أن حزب الله ليس تابعاً للاستراتيجيا الدفاعية الإيرانية، بل شريك فعلي فيها، وقدّم لها أكثر من إثبات على مرّ السنوات المنصرمة منذ عام 2005 على أنه قادر على إدارة المسرح اللبناني والسيطرة على لعبته. في ظروف أكثر تعقيداً، كشف عن مهارة تجاوزت تلك التي حاولت سوريا على مرّ حقبة الوصاية إظهار مقدرتها على الإمساك بلبنان، ثم أخفقت بأثمان مكلفة للغاية تحمّل وزرها النظام. لا يزال الحزب إلى الآن، بعناصر قوة مذهبية وسياسية وعسكرية وأمنية، يتحكّم بالسلطة السياسية والأكثرية الحالية في مرحلة تواجه إيران وسوريا حصاراً دولياً مُحكماً، حمل الأمين العام للحزب السيد حسن نصر الله على استخلاص مكامن الضعف، الحقيقية والمؤلمة، التي بات يتخبّط فيها نظام الرئيس بشّار الأسد وهو يُوشك على الأفول، عندما دعا اللبنانيين الشيعة إلى عدم الذهاب إلى سوريا بعد خطف الحجاج الـ11 في حلب.  

السابق
مديرك يقتلك؟ انت واحد من ملايين
التالي
لا تدفعوا الفواتير