إنه الطابور.. الأول

يبدو أن "الطابور الخامس" هو الطرف الأقوى على الأرض في بيروت. وربما صار من الواجب تسميته الطابور الأول طالما أن لا طوابير أربعة تسبقه، أو تقوم بما يقوم به، وطالما انه بات متقدما "واقعياً على القوى الأمنية من جيش ودرك. فالطابور الخامس يمكنه ان ينزل الى الشارع ساعة يشاء، وهذا الشارع يمكنه أن يكون في أي مكان من بيروت، على أطرافها أو في وسطها أو قرب وزارة الداخلية أو أمام محطة تلفزيونية، أو على الجسر الواصل بين البيروتين الشرقية والغربية. لا شيء يرهب الطابور الخامس أو يردعه أو يدفعه الى الإختباء أو الهرب أو القيام بفعلته ثم العودة الى المخابئ. على العكس من ذلك تماما، يمكن لهذا الطابور أن يقوم بفعلته على الملأ سواء كانت إشعالا للإطارات المطاطية وشلّ التنقل في أنحاء المدينة أو إطلاق الرصاص في الهواء ترهيباً وتعنتاً وتجبراً وفرضاً للقوة.
ولكن، بسهولة يمكن تسمية الطابور الخامس بالطابور الأول، فهو لا يخضع لمطالب سياسيين على اختلافهم، ولا الى مطالب القوى الأمنية التي من المفترض أن عملها الأول تحقيق الأمن وحماية المواطنين وتوقيف المخلين بالنظام العام وبالأمن العام. وبما أنها لا تتمكن من القيام بمهامها بحسب ما بدا واضحا خلال الأيام والأسابيع الماضية، فهذا يعني أن ما يسمى بالطابور الخامس هو قوة أمر واقع، لا أحد يمكنه مجابهته. وحين تصبح قوة الأمر الواقع قادرة على فرض الواقع الذي تريده وترتئيه ساعة تشاء ومن دون محاسبة أو ملاحقة، تتحول الى ميليشيا. فالميليشيا، سواء كانت مسلحة بالسلاح الناري أو بالسلاح الأبيض أو بالسلاح الأسود على شكل إطارات من الكاوتشوك، هي في واحدة من حالاتها، سلطة داخل السلطة، وقوة أقوى من السلطة في المناطق التي تسيطر عليها. والميليشيا، لها قادتها ومحركوها وممولوها والراغبون باستخدامها، فلا يمكن لأي ميليشيوي أن يتصرف على هواه اذا لم يكن "مغطى" سياسيا. وهكذا وتحديدا في ظل نظام "الأمن بالتراضي" اللبناني، تصير الميليشيا أقوى من السلطة وقواها الأمنية والعسكرية، وتصير بدل الطابور طوابير وبدل الأشباح حقيقة واقعية وراهنة، وبدل "اليد التي تعبث بالأمن" والتي "تصطاد في الماء العكر"، تصير سلطة فعلية على الأرض، تقرر ما تشاء ساعة تشاء.
لذا فإن العودة الى نغمة الطابور الخامس فيها الكثير من الإستهزاء بعقول اللبنانيين الآمنين الذين يرتجون السلم ويتطلعون الى تحسين حياتهم المعيشية في ظل هذا الوضع المتأزم إقتصاديا وسياسيا وأمنيا. ويصير تكرار لازمة "العابثين بالأمن" أو "الخارجين على القانون" بلا معنى وبلا جدوى، أي كلاما فارغا على حالة ممتلئة وتكاد تنفجر. وهو تهرّب من الواقع ورفض للنظر فيه مباشرة لإيجاد حلّ جذري له، وقد يكون السبب أن القوى الرسمية المفترض بها الحفاظ على الأمن وتحقيقه لا تقوى على قوى الأمر الواقع المسماة بالطابور الخامس.
في هذه الحالات جميعها تصير الحكومة المنفرطة من داخلها كفزاعة الحقل التي لا تفزع أحداً، بل يكون شكلها لزوم ديكور الحقل كما في القصص المصورة للأطفال. وتصير هكذا حكومة وكأنها تتآمر على مستقبل الدولة برمتها، والدولة في التعريف السياسي البسيط عبارة عن أرض وشعب وسلطة، وأي انتقاص في واحدة من هذه الثابتات الثلاث يعني أن الدولة تتعرض للضرر في هويتها ووجودها، هذا الضرر الذي قد يؤدي الى انهيارها عاجلا أم آجلا، وبمساعدة فعالة وحثيثة من "الطابور الخامس" أو الميليشيا.
لذا فإن بقاء هذه الحكومة هو بمثابة مراهنة على مستقبل الدولة كلّها، وهو تقديم لوجود الحكومة وهي زائلة عاجلا أم آجلا ـ على مستقبل الدولة الباقية أرضا وشعبا وسلطة متداولة الى الأبد. والمتمعن في الوضع السياسي اللبناني العام لا يمكنه الا أن ينتبه الى أن حكومة من لون واحد لا بد تؤدي الى انقسام عام في البلاد، والى احتقان والى تحدٍّ بين الأهلين والمواطنين المشرذمين الى طوائف وملل. فكيف الحال اذا ما كانت الحكومة لا تقوم بأقل واجباتها أي تأمين الخدمات الحياتية للمواطنين، فهذا لا بد يزيد الطين بلّة.
إقتراح الرئيس السنيورة تشكيل حكومة "لامنتمين" أو حكومة حيادية، سيبدّل الأحوال بالتأكيد، وسينفّس كل هذا الغضب الذي يتحوّل الى دخان اسود في سماء البلاد، ولو كان هذا الدخان صادراً عن مناصرين لأطياف الحكومة الحالية. فالمواطن المدفوع الى رد الفعل يمكنه أن يقوم بالفعل أيضا، فهذه حلقة متناسلة ومتواصلة ولا نقطة بداية لها ولا نهاية.
 
 

السابق
معركة رابطة مختاري قضاء صور الأحد
التالي
الليل موتٌ دافئ