همس عن استقالة بابوية..

من عقر "الدار البابوية"، سربت وثائق سرية ونشرت في كتاب لم يسحب من الأسواق لا بل يعمل على ترجمته الى لغات عدة. "طعنة الغدر" غرزت في ظهر البابا بنديكتوس السادس عشر ولكنها أصابت أكثر من مليار كاثوليكي حول العالم وتعدّتهم الى أسرار كنسية ومصالح دول و"اعترافات" قادة أدلوا بها أمام كرسي "الحبر الأعظم".

"الفضيحة" ترتدي حجما كبيرا الى درجة أن يقر بها "قداسته" في آخر إطلالة له منذ يومين وأن يعلن الفاتيكان إصراره على "السير بالتحقيق في هذه القضية حتى لو إقتضى الأمر الوصول الى محكمة دولية". ولا يستبعد المتابعون اللبنانيون لهذه القضية أن يكون هناك من يريد تدفيع البابا الألماني ثمنا باهظا جدا بحجم الاستقالة، خاصة وأنه بدأت ترتفع أصوات حول احتمال أن يقدم بنديكتوس السادس عشر استقالته ويرفقها بـ"حجّة التقدم في العمر"!
تعود جذور القضية الى بضعة أشهر عندما كشف عن رسالة بعثها المطران كارلو ماريا فيغانو (تم تعيينه سفيرا بابويا في الولايات المتحدة الأميركية) الى البابا يمتعض فيها من نقله ويعتبر أن هذا الإجراء اتخذ في حقه بسبب محاربته الفساد ودعوته الى اعتماد الشفافية.
الجدير ذكره أن فيغانو كان يشغل مركزا حساسا يمكن تسميته في أعراف الدول بـ"المدير العام لوزارة المالية" في دولة الفاتيكان وكان يتحدث في العلن عن "نفقات فضفاضة وبذخ". فما كان من رئيسه المباشر، أمين سر دولة الفاتيكان المطران تارشيتسيو بارتوني، إلا أن سعى الى نقله على قاعدة "إزاحة الآدمي من الدرب"، على ما يقول فيغانو في رسالته.

لم ينف الفاتيكان أو يؤكد مزاعم فيغانو، فبدأت التحقيقات من لجنة تحقيق عينها البابا وتتألف من كبار الكرادلة. واصلت اللجنة عملها الى اليوم الذي تمكن فيه "درك الفاتيكان"، من ضبط مستندات سرية بحوزة مرافق البابا الشخصي باولو غابرييلي. كان هذا الرجل "المدني"، بمعنى أنه ليس رجل دين، متوجها الى منزله وبيده رزمة مستندات عندما أوقف وقيل إنه هو من كان يسرّب الوثائق. ليتبيّن لاحقا أن تلك المستندات هي جزء ضئيل من وثائق نشرت قبل أسبوع في إيطاليا في كتاب للصحافي جان لوكاس نوتزي تحت عنوان "قداسة البابا: رسائل سرية".
منذ 18 أيار الماضي، يقبع مرافق البابا في إحدى الغرف داخل أسوار الفاتيكان. فلا سجون في الدولة الكاثوليكية. يخضع غابرييلي للتحقيق بإشراف المدعي العام في حاضرة الفاتيكان كونه مواطنا فاتيكانيا. وتجدر الإشارة الى أن اعتقال غابرييلي جاء بعد فترة وجيزة من إقالة المدير العام لمصرف الفاتيكان بسبب "ســـوء الإدارة".

إنها "الهزة" الأولى من نوعها في تاريخ الكنيسة الكاثوليكية. فالعقيدة المبنية على أسرار مقدسة لم يعد في مؤسساتها أسرار و"انكشف المستور" عن الكثير من المحرّمات.
تسأل بعض الأوساط رأس الكنيسة الكاثوليكية التسامح لكن الرد يأتي سريعا. "في هذه الحالة لا يحق للبابا أن يسامح لأن القضية لا تتعلق بشخصه وإنما أسرار الناس وكراماتهم". ومن هذا المنطلق، يمكن اعتبار أن "قداسته" استهدف من خلال مواقع ثلاثة يشغلها: أولا، كونه "نائب المسيح على الأرض" وفق العقيدة المسيحية الكاثوليكية. ثانيا، كونه الرئيس الأعلى والمباشر لكل كاثوليك العالم. وثالثا، كونه رئيس دولة.
في خلفيات القضية، يذهب البعض في تحليله الى القول بأن المطلوب هو "قطع رأس" المطران بارتوني وهو "الرجل الثاني" في الفاتيكان بعد البابا، والمرتبط اسمه بـ"الفساد" بحسب فريق من المطارنة. لكن من عادوا من روما سمعوا من مراجع فاتيكانية تصوّب هذه المسألة بقولها أن "لا انقسامات داخل الفاتيكان وإنما تباين في الآراء بين ما يمكن تسميته المحافظين والمجددين… وهذا دليل عافية".

هناك معلومات غير أكيدة عن استدعاء عدد من الكرادلة الى التحقيق. علما أن مدير دار الصحافة التابعة للفاتيكان الأب فريديركو لومباردي نفى "المعلومات التي تتحدث عن تورط كرادلة في الموضوع بالإضافة الى سيدة تدعى ماريا وهي مدبرة "المنزل البابوي". وأوضح أنه "في حال تم استدعاء كرادلة فهؤلاء لا يحق مقاضاتهم إلا من البابا شخصيا"، مستعبدا مثولهم، أي الكرادلة، أمام القضاء الإيطالي أو الدولي أو أي جهة قضائية أخرى غير شخص البابا نفسه".
واستنادا الى هذه النقطة، تؤكد المراجع "عزم الفاتيكان على السير حتى النهاية في هذه القضية حتى لو وصل بنا الأمر الى القضاء الدولي". "الثقة الكاملة" أعلنها البابا لكبار معاونيه، لافتا الانتباه الى أن "وسائل الإعلام تحاول تضخيم الموضوع وأنه يضع ثقته بالقضاء الذي سيعطي الكنيسة حقها". وبشكل يومي تقريبا، يعقد لومبادري، مؤتمرا صحافيا ينفي فيه الأخبار عن احتمال استقالة البابا ويطلع الرأي العام على آخر مستجدات التحقيق.
لكن الفاتيكان لم يتناول بعد بشكل صريح ما جاء في الكتاب. لم ينف. لم يشكك. لم يؤكد. كل الردود الفاتيكانية اقتصرت حتى الساعة على أن "هذا يحصل في كل المجتمعات". الخطير أن قانون الكنيسة الكاثوليكية يسمح بالكشف عن "الأرشيف الفاتيكاني" للعموم كل مئة عام. أي أن الكنيسة تسمح اليوم مثلا للباحثين والمهتمين الإطلاع على الأرشيف السري ولكن ليس الكامل للبابا لاوون الثالث عشر الذي توفي في العام 1899. علما أن كل اللقاءات التي يعقدها الحبر الأعظم مع زواره لا تتم في حضور أي مقرر. فهو، أي البابا، ينصرف الى مكتبه بعد كل لقاء ويدوّن مقررات جلسته مثلا مع الرئيس الأميركي باراك أوباما.

في تلك المستندات، قد يجد من تسنّى له الإطلاع على بعض ما جاء في الكتاب، مراسلات شخصية جدا بين البابا وعدد من رعاة الكنيسة سواء داخل الفاتيكان أو على الصعيد العالمي والتي تتضمن الإشادة وأحيانا التأنيب. بالإضافة الى المحادثات السرية للبابا مع رؤساء دول وشخصيات عالمية، قضايا أخلاقية، المافيا الإيطالية، تبييض أموال في الفاتيكان… والأهم موقف الفاتيكان من السياسة الدولية.
كل تلك "الكنوز" كانت بيد غابرييلي المرافق الشخصي للبابا الأمين على اسرار غرفة الحبر الأعظم. إنه الشخص الذي يبدأ نهار البابا على صوته. وعلى "دقة ساعته" يغفو صاحب "الهالة الأعظم" في عين الملايين حول العالم.

هنا تطرح أسئلة عدة: ما هو حجم الإغراءات التي قدمت لهذا الرجل، المتمتع بكل تلك الامتيازات، ليقدم على ما أقدم عليه؟ هل القضية محصورة بين صحافي ينشر أسرار الكنيسة ومرافق شخصي يبحث عن حفنة من الدراهم؟ أم أن المسألة أبعد من ذلك وتصل الى أدوار خفية لغرف الإســــــــــــــــتخبارات العالمية؟ هل غابرييلي هو "الضحية" التي كان لا بد منها بينما "المجرم الحقيقي" لم يتم العثور عليه حتى الآن.
كلها أسئلة برسم تحقيق مفتوح، وفي انتظار صدور نتائجه، يعيش الفاتيكان حالة "حذر من الذات"، وبات يتأنى "اهله" حتى في مكالماتهم الهاتفية، مخافة أن يكون "شبح" الخيانة ما زال حاضرا بينهم.

السابق
متى يبقّ كل البحصة؟
التالي
عذراً أنطوان لحد، لقد ظلمناك