التوجّس الجنبلاطي والغـبـاء الأميـركي

زيارة مساعد وزيرة الخارجية الأميركية لشؤون الشرق الأدنى السفير جيفري فيلتمان لم تكن مفاجئة، لأنه من «أهل البيت»، والدليل على ذلك الحفاوة التي استُقبل بها في كليمنصو أمس الأول، والعشاء الذي أعدّه له الشيخ بطرس حرب، أحد المرشحين الدائمين لرئاسة الجمهورية، والذي يحضره أركان 14 آذار… إلا أن المفاجأة كانت الاتصال الذي أجرته وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون بالرئيس ميشال سليمان لإبلاغه بزيارة فيلتمان وتمنيها عليه، بطريقة غير مباشرة، ان يستقبله هذه المرة بعدما كان رفض استقباله في الزيارة السابقة احتجاجاً على تصرف الإدارة الأميركية حياله لدى مشاركته في دورة الجمعية العمومية للأمم المتحدة. وفي حين كان على كلينتون أن تشرح لسليمان الهدف الأساسي لزيارة فيلتمان في ظل الأجواء السائدة في سوريا، والأسباب التي جعلتها تتصل به وليس بنظيرها وزير الخارجية عدنان منصور، لم تجد في ما يقوم به سليمان والحكومة اللبنانية، سوى تذكير سليمان بما ورد في الكلمة التي ألقاها أخيراً في قمة بغداد، وتضمنت دعوة لبنانية «للمحافظة على المكونات البشرية المتنوعة للعالم العربي، من ضمن الوحدة، على قاعدة الديموقراطية والمشاركة في الحياة السياسية وإدارة الشأن العام». متمنية على سليمان التعاون مع فيلتمان في هذا الشأن.

ولم ينخدع أحد بكلام كلينتون، بمن فيهم أركان 14 آذار، لأن أهداف الزيارة واضحة المعالم، وتهدف في الدرجة الأولى إلى إثارة قلق «المكونات اللبنانية المتنوعة» من طريق تحريض فريق لبناني على آخر، ومحاولة تعطيل إقرار مشروع جديد للانتخابات من شأنه أن يحقق التمثيل الصحيح والعادل لمختلف المكونات البشرية للمجتمع اللبناني، فضلاً عن تصحيح الأخطاء التي ارتكبت بعد الطائف وفي ظل نظام الوصاية السوري الذي أوحى بما عُرف بـ«قانون الألفين» الذي حكّم برقاب اللبنانيين طبقة سياسية موالية لسوريا آنذاك، على نحو ألحق الظلم بمكوّن أساسي في الصيغة اللبنانية هو المكوّن المسيحي الذي وضع أكثر من نصف نوابه تحت أجنحة الطوائف غير المسيحية من سنية وشيعية ودرزية، فأصبح هناك «مسيحيو المستقبل»، و«مسيحيو أمل»، و«مسيحيو حزب الله»، و«مسيحيو جنبلاط».

ويؤمل أن يغتنم الرئيس سليمان فرصة استقباله السفير فيلتمان لقراءة «مزموره» عليه مدافعاً عن سياسة «النأي بالنفس» في الموضوع السوري على أساس أن لبنان ألزم نفسه في الميثاق الوطني الاستقلالي بألا يكون مقراً للإضرار بأمن سوريا ولا ممراً له. كما تحكم العلاقات بين بيروت ودمشق معاهدات واتفاقات متبادلة سيبقى لبنان متقيداً بها، خصوصاً في المجالات الأمنية، ما دام النظام في سوريا قائماً شرعياً ودستورياً. وعليه أن يحذّر فيلتمان من أي خطأ في هذا المجال.
أما في الشأن اللبناني فهو حريص على الوفاق بين جميع المكونات السياسية بصرف النظر عن توجهاتها وانتماءاتها، وأنه يعمل من أجل استمرار هذا الوفاق، لأنه ضمان للأمن والاستقرار والوحدة الوطنية.

أما في الشأن الانتخابي الذي استدعى، في الحقيقة، اتصال الوزيرة كلينتون بسليمان فلا بد من أن يكون الرئيس حريصاً على عدم تدخل الخارج في الانتخابات، مبدياً وجهة نظره في النظام النسبي الذي من شأنه تحقيق التمثيل الصحيح والعادل، وتوطيد أواصر الوحدة الوطنية، وتخفيف حدة التوتر بين الجماعات نظراً إلى أن كل واحدة منها ستعود إلى حجمها الطبيعي، وتنسى الأحكام المضخّمة التي نفخها المال السياسي وساعدت فيها قوانين الانتخاب الظالمة التي أحدثت تباعداً بين اللبنانيين كما تسببت بمزيد من الهجرة، خصوصاً في صفوف المسيحيين الذين نكبوا في حرب الجبل عام 1983 ولم يرجع إلى قرى التهجير هناك سوى القليل. آملاً أن يقتنع الزعيم وليد جنبلاط بأن النسبية هي في مصلحته، وأن العبرة ليست في عدد النواب، بل في الدور والحضور وإعادة وصل ما انقطع بين مكونين رئيسيين للكيان، أي المسيحيين والدروز.

ولعل أغرب المفارقات ان يبدأ فيلتمان حملته الانتخابية بالرجل الأعنف رفضاً لمشروع الرئيس سليمان الانتخابي. إذ كان على الرئيس أن يوفّر على نفسه إغضاب الزعيم الدرزي من طريق فتح حوار بإشرافه بين المكونات المسيحية والدرزية، التي هي أساس الكيان، ولأن جزءاً مهماً من شكاوى المسيحيين من تحكّم المسلمين باختيار أكثر من نصف نوابهم، عائد إلى حرب الجبل عام 1983 وتداعياتها على الصعيد المسيحي، خصوصاً ان كثيرين من أهل الجبل المسيحيين لا يزالون «لاجئين» داخل لبنان وخارجه في دنيا الاغتراب.
لذلك اعتبر جنبلاط «أن حالات الانقسام والتوتر الشديد، وحالات القطيعة السياسية بين اللبنانيين، تقف حائلاً دون نجاح النظام النسبي الذي سوف يزيد الشرخ الداخلي».
وهو رفع تحدياً في وجه سليمان عليه أن يرد عليه بورشة إصلاح وطنية، حين قال: «إن من يحملون لواء النسبية إنما يرفعونها حصراً بسبب رغبتهم الجامحة لإقصاء الآخر، وليس لتحقيق الإصلاح السياسي». قد يكون من حق جنبلاط أن يتوجس متوهماً أن ثمة من يريد به شراً، أو يريد أن يقصيه أو يلغيه. إلا أن من حق الآخرين كذلك، خصوصاً أولئك الذين نُكبوا وظُلموا، أن يصلوا إلى حقوقهم، وينصفهم التاريخ.

السابق
وهّاب إن حكى
التالي
المفتي عبد الله:لبنان يعيش في دائرة الخطر وسلاحه الوحدة والحوار