أعلنوا اشمئزازكم

لم يكن ينقص اللبنانيين سوى الجلسة النيابية الأخيرة ليكتمل اشمئزازهم. رأوا، مرة أخرى، أن تحت قبة المجلس من هم أكثر سوءاً من عناصر ميليشيات الحرب التي لمّا تنصرم: خلع أغلبهم المرقّط عن أجسادهم، ولم ينزعوا لغته من عقولهم. واللغة ليست وسيلة تواصل فحسب. هي مرآة لوعي ثقافي وسياسي وقيمي، تفضح الزقاقي وتظهّر المثقف. حتى الاساءة اللفظية تبين ضحْل الثقافة من المتخَم من منهلها، وتميز الرويبضة من ذي الحكمة.

هذه الجلسة، بالزجل السياسي الذي "زينها"، ليست غريبة عن مواسم فساد تتوالى منذ أشهر: فنواب كالكابتاغون الذي صنّع في المخابئ المحمية بسلاح القضية التائهة بين الزعم والتبريج، ونواب كاللحم الفاسد المستورد في عتمة الهيمنة، وآخرون كالأجبان والألبان وحليب الأطفال الفاسدة. لا يستطيع اللبنانيون إلا أن يلحظوا أن حالهم اليوم أكثر سوءا مما كانت عليه قبل عام. وإذا كانوا لا يترحمون على أيام الحرب، فلأن مرارتها لم تُنس بعد، لكن المسافة الزمنية تجعلها أقل لسعاً، وأقرب مذاقاً.

يقول أبو ذر الغفاري: "عجبت لمن لا يجد القوت في بيته ولا يخرج على الناس شاهراً سيفه". واللبنانيون اليوم لم يخرجوا بعد على الطبقة السياسية، فيما ينامون ويصحون جائعين إلى لقمة العيش وكرامة العيش،وحرية العيش وسلامة العيش. يواجهون بالمفرّق من أجل سعر ربطة الخبز، وثمن تنكة البنزين، ويصرخون سائلين عن الضمان الاجتماعي، ويولولون مع الأساتذة المتعاقدين وغير المتعاقدين، وينوحون من المستوى التعليمي ، ومن أقساط المدارس الخاصة. وتزكم أنوفهم مساومات التعيينات، والمازوت، وبواخر الكهرباء، والاعتداءات على الأملاك الخاصة والعامة، وشفط الرمول، وتقاسم المشاعات بين الذين انتخبوهم تحت مظلة سلاح كان قضية فصيروه مطية غطت تجار الأموال والمخدرات.
هي المظلة نفسها التي تمر تحتها كل تجارة تُعمى عنها عيون الجمارك، السياسية والمالية. هي نفسها التي ترى العمالة مدانة هنا ومباركة هناك. فتصلب ربعة قوم في هذه الجهة، وتهلل بكرم في أخرى.

يصمت اللبنانيون على المثالب التي ينضح بها الجسم السياسي المسيطر على يومهم، ويلوذون بالنقيق تعبيرا عن تبرمهم. ولو سألوا انفسهم عما ينتظرون ليعلنوا قرفهم واشمئزازهم، لاكتشفوا أنهم متواطئون مع جلاديهم، منذ لحظة الاقتراع إلى لحظة الاقتراع، لأنهم عبيد الطائفة والمذهب والعشيرة والعائلة والحي، وهم جواري السلاح، قبلوا به أو رفضوه. وهم مازوشيون في السياسة، يعشقون من يذلونهم في عيشهم باسم إعلاء شأن الطائفة، كل طائفة، فيما لا يُعلون إلا شأن شخوصهم ومن سيورثون. ونحن نلعق سيفا يحز رقابنا مرة باسم النصر على المؤامرة، ومرة باسم النصر على الآخر في الداخل، لكن ولا مرة مع هذا الآخر باسم الوطن ولأجل المواطنين الذين هم نحن.
أوقفوا النق. أعلنوا اشمئزازكم وقرفكم. آن الأوان.

السابق
نساء متزوّجات يهربن لغرف العزوبية في منتصف الليل !!
التالي
الصحافة اللبنانية تودّع عدلي الحاج