أما وقد استبدلنا النسوية بالأمومة

في سبعينات القرن الماضي وثمانيناته، كنا في عزّ شبابنا، واثقات بالحداثة والنسوية، مؤمنات بالنضال اليساري. وقد أنجبتْ غالبيتنا أطفالا في تلك الايام. وكانت بداية الاختبار العملي الطويل، بعد "النظري"، لأفكارنا المحبوبة. أقول "محبوبة"، لأننا كنا نحبها، هذه الافكار، حتى العبادة أحيانا: هي التي تؤكد على ريادتنا، على تميزنا عن بين بقية النساء اللواتي "سقطن" في فخ الانجاب دون غيره من اهتمامات وممارسات.
فكرة هذه الافكار كانت تدور حول الثنائية الجديدة التي تلقفناها من النسوية، من ان الثورة التي احدثتها هذه الاخيرة تقضي بخروج النساء من دائرة "الخاص" وانشطته، أي العمل المنزلي والامومة . الاول كان بنظرنا "روتينيا"، "غير منتج"، "غير تراكمي"، "مملّ"… فيما الثانية، الامومة، ننعتها بسلبية منهجية، بشيء من النفور والرفض: وظيفة "بيولوجية"، "طبيعية"، "فطرية"، وكلها مفردات لا تتصل بعظمة الفعل الذي كان ينتظرنا خارجها. وكان من البديهي بالنسبة لغالبيتنا ان تكون امهاتنا هن المثل المضاد الذي لا يتوجب علينا اتباعه… دائرة "الخاص" المرذولة اذن من جهة، ودائرة "العام"، العمل (المأجور، أو المهنة الخ) والسياسة خصوصا، أي تلك التي احتكرها الرجال منذ ازمنة ساحقة، وهي الأنبل، الاكثر جاذبية، هي التي تمنح الحرية والاستقلالية وتأكيد الذات، هي التي تستحق خوض غمار الحياة وتعطيها معانيها.
ولذلك، عندما انجبنا، احتدمت الثنائية، عام/خاص، أمومة/عمل (أو سياسة)، وكانت الآلية الذهنية الوحيدة المتوفرة للخوض فيها، المفهوم المتوفر آنذاك، محاولة التوفيق بين مهماتنا المتضاربة؛ مع الاولوية دائما للـ"عام"، عاطفيا أو نظريا، على الأقل. فحصلت المبارزة التي خاضتها غالبيتنا من اجل هذا التوفيق، بين وظائف المجالين، المرغوب والملفوظ. كانت لدينا "أمثلة" و"نماذج" عن بطلات من بيننا، "وفّقن" بين الاثنين، وتفوقن؛ على ما كنا نتصور آنذاك…
وكان "برنامجنا" أيضا حاضرا: على الدولة إقامة المطاعم الجماعية والغسالات العامة من اجل التخفيف عن كاهلنا، وتركنا نمارس انشطة المجال العام. ليس هذا فحسب، انما الامومة ايضا، تأخذها الدولة على كاهلها، بإنشاء الحضانات المجانية (أو شبه المجانية) التي بدورها تسمح لنا بالتخفُّف من عبء اضافي اساسي، بعد الطبخ والجلي والكنس… يؤخر مسيرتنا المظفرة في المجال العام.
بانتظار تحقيق هذا الرنامج غير المتواضع عوّلنا على الذين اختارناهم ازواجا لنا بأن "يتقاسموا" معنا مهام "الداخل" الخاصة، طالما اننا نشاركهم مهامهم الخارجية العامة. ومنها مهام الابوة نظير امومة؛ أي ان يربّوا كما نربّي نحن، ان يحفّضوا، أن يرضعوا، أن يسهروا،ان يعطوا نصف الوقت الذي نعطيه… وبدا الامر لنا منطقيا تماما، بديهيا، لا يحتاج الى غير الانتماء لدائرة اليساريين الثوريين.
كنا نشير بالإسم الى الذين يخالفونا هذا المنطق بالممارسة الأكثر صراحة، من انهم غير مستعدين الا للنقيض، أي ان يحبسوا زوجاتهم عن المجال العام، بأن يوقعهن بالحمل كلما همّت الواحدة منهن الى مجرد قراءة الصحافة!
هذا الصنف من الرجال كان منبوذا في وسطنا، نحن النساء الخائضات معركة تقسيم العمل الخاص. ذلك ان الذين قالوا بهذا التقسيم في البداية، كما في كل بداية، عملوا بما يرضي فهمنا المستعجل له. فيما هم، المساكين، كانوا يعيشون كابوسا سريا في منافستنا لهم في هذا المجال. لذلك، مع الوقت، مثلما يحصل مع كل ما يمر عليه الوقت، فسد هذا التقسيم واضمحل تماما، وصار محل تندر وسخرية شديدة لمن يتذكّرونه.
والآن ينظر بعضنا الى رغبتنا الغابرة باشراك الرجال في المهام الامومية على انه يشبه الى حد بعيد تعويلنا على الدولة في تشييد المغاسل والمطابخ والحضانات. والفرق ان الاستجابة الرجالية، الحاضرة والمرحبة في بداياتها، كانت بعكس الدولة. الواقع ان الرجال كانوا يستجيبون لإغرائنا، كانوا بحاجة الى موافقتنا على "مطالبنا العادلة"، وإبداء الحماسة لها، لكي ننجذب اليهم ونقترن بهم؛ فيما هذه المطالب، في الحقيقة، تعطل ادوارهم العامة، الوحيدة، مقابل وظائف لم ينشأوا عليها ولا على قيمها، فوق انها عديمة الجاذبية.
كنا ننتظر ان تأخذ الدولة العتيدة على عاتقها تنتفيذ برنامجنا الطموح، في زمن كانت الدولة تأخذ طريقها الطويل نحو التفكك والانكماش. فكانت الحرب الاهلية المديدة التي امضيناها نربي اولادنا تحت خطر القذائف والانفجارات والاشتباكات والاجتياحات وكل ما يمكن ان يحول الامومة الى غريزة ساطعة، مهيمنة، لها الاولوية على كل شيء، بما في ذلك طموحاتنا النسوية الحامية. امضينا الحرب نحمل أولادنا، نجرهم، نهرب بهم، نحميهم من حيط غير آمن الى ملجأ اقل خطورة… نجنّ بانشغال بالنا عليهم، نهدىء روعهم عندما تفاجئهم القذيفة او الانفجار، نبحث لهم تحت القصف عن دواء او ربطة خبز أو شمعة تخفف من ظلام مخائبنا…
الحرب الاهلية نقلتنا من مشروع امومة "متقدم" الى امومة اولية، فيها انياب وقلق وخوف وسهر. كنا في سبيلنا الى بناء قصور من رمل، واذا بنا نستند الى اسوار الرعب والجنون. في المشهد شيء من السوريالية، عندما تنظر اليه الآن، من بعيد. سوريالية مضحكة، لو لم تخلف هذه الحروب ضحاياها الكثر، فضلا عن خرابها العميم.
هل يمكن تصور تطور موضوعنا دون الحرب الاهلية وتفرعاتها؟ أي، ما المنحى الذي كانت سوف تتخذه رؤانا للامومة لو لم تندلع الحرب وتخرب معها كل المسارات؟ ربما يكون مفيدا الاجابة على السؤال، وربما الاكثر إفادة هو مجرد طرح السؤال. فالمهم الآن هو ما بلغه هذا الجيل من النساء في مسعاهن القديم، على الرغم من الحروب.
الآن، ماذا يمكن القول عن الآن؟ بنات هذا الجيل، وقد اصبح بعضهن الآن جدات، الى ماذا خلصن؟ لا يمكن التعميم، طالما لا نملك دراسات جدية حول الموضوع، ولكن الافتراض الاكثر ورودا هو انه لم يحصل نجاح واحد. لم تسجل نقطة تقدم واحدة في مسيرة المرأة الناشطة في العام، الا على حساب وقت الامومة، الوقت الوفير المطلوب من ام تقوم بمفردها بتربية اولادها. اعني بدون عون الزوج، نظرا لتعطّل الأبوة.
كيف نقيس هذا الوقت؟ بالفراغات التي نشعر انها قائمة بين الأم وولدها، والتي كان الوقت السابق هو الوحيد الجدير بملئها. وهذه الفراغات ليست مقتصرة على حاجة اولادنا اليها، بل حاجتنا نحن، التي لم نكن نحترمها، الى الفرح بالامومة، بل افراح الامومة المبهجة. السعادة بالامومة هذه، التي لم نذقها.
كان من بيننا من هن اكثر منطقية منا، نحن اللواتي خضنا غمار الامومة الصراعية، فقد قررْن بكل بساطة انه طالما هناك صراع بين وقت الامومة ووقت النجاح في المجال العام، فان الحل الوحيد هو عدم الانجاب، بزواج أو من دونه؛ وفي معظم الاحيان من دونه. تجنّبن تجربة الثنائية العام/الخاص المنهكة، وضحيّن، على طريقتهن، بلذة طبيعية، شرعية، مثل الحب أو الصداقة.
هل اخطأنا؟ أم ان القدر اخطأ بحقنا؟ الارجح اننا كنا منجرفات في سياق تاريخي ليس من صنعنا، ليس من صنع اوضاعنا وتطورها الذاتي. الحرب الاهلية كانت هي التطور الذاتي، وقد صدّت هذا الانجراف من غير ان تفرغه من محتوياته، وهذا دليل حيويته. وما افضت اليه نتائج هذه الحرب لم يسمح بغير الاختراقات المعولمة للنسوية، او بعبارات اخرى ما ينتج من اوضاع وما يروج له من رؤى في هذا الوقت الراهن.
في زمننا، كان الرجال المرشحون للاقتران بنا وفيرو العدد. كنا نسكن بالقرب من امهاتنا اللواتي قللنا من شأن سيرهن. كان اندفاع النساء للعمل مثل وثبة تاريخ. كانت لنا رؤية محددة، بصرف النظر عن "صحتها". كان لدينا امل. الآن، رحلت معظم امهاتنا، وبات للأمومة بديلة احتياطية اخرى، اثيوبية او سيريلنكية او فيليبينية، فيما الوضع النموذجي الذي تتوق اليه النساء، ضمنا او علانية، هو ايجاد من يضمن لهن الامان او الرخاء… اولادنا هاجروا، والاسلام السياسي يعيدنا الى الاسئلة الاولى. وعيد الام هذه السنة تجاوز احجاما قياسية في الضجيج والصخب والتهييص، والتشجيع الى الشراء… ولكن من دون آمال كبرى كالتي ابهجت شبابنا، قبل ان تخيب اوهامه وتنهار قصوره الكارتونية.

السابق
تجمع لبنان المدني يقيم ورشة فكرية سياسية حول الدولة المدنية وشروطها العربية واللبنانية
التالي
لماذا تجد أسماء الأسد أن الحياة غير عادلة؟