نص لا يشبه المستقبل ولا يخص اللبنانيين

تقدم «14 آذار» نفسها كرائدة لـ«الربيع العربي» في لبنان. فهي المبادرة إلى الحراك السلمي، الذي اسقط الحكومة اللبنانية في الشارع، واخرج الجيش السوري من لبنان وساهم بإنشاء المحكمة الخاصة بلبنان، لمحاكمة مرتكبي الاغتيالات.. ثم حدث ان تلكأ «ربيعها» في لبنان، عندما انقسمت الجماعات اللبنانية، ولا تزال، حول عناوين حساسة ومتفجرة، جعلت لبنان عاجزاً عن اتخاذ موقف موحد، في ما خص «الربيع العربي» تحديداً، لأن لكل جماعة «ربيعها».
هل يكفي تطعيم «14 آذار» بوثيقة سياسية تجيد في التنظير للديموقراطية والحرية والمواطنة والعدالة… وتفشل في تطبيقها في لبنان؟
هنا، محاولة لقراءة «14 آذار» بعد سبعة أعوام على ضوء الوثيقة. بعد مساهمة الوزير السابق روجيه ديب، ومساهمة نائب رئيس حزب الكتائب اللبنانية سجعان القزي، هنا مساهمة نصري الصايغ.
لا تشبه الوثيقة السياسية لـ«تيار المستقبل»، المكونات الشعبية والحزبية لـ«14 آذار»، من جهة المنطلقات النظرية التي تبنتها في تفسير «الربيع العربي»، الذي قادته قوى شبابية عربية، التقت على رفع شعارات «الحرية والكرامة والرغيف» بهدف إزالة الاستبداد، واستبداله بأنظمة ديموقراطية تصون الحرية وترعى المصالح وتحقق الطموحات وتعترف بالاختلاف والتعدد وتداول السلطة.
«الوثيقة» التي أفاضت في التنظير للثورة العربية، بدءاً من «ربيع لبنان»، والتي انتشرت بعد اندلاعها في تونس في «سائر أنحاء الوطن العربي، وبخاصة في البلدان ذات الأنظمة العسكرية والأمنية» ـ ما يضمر استثناء الحراك السلمي الذي اندلع في البحرين ـ تؤكد على أن التغيير العربي هو عملية ديموقراطية بعيدة المدى، تضع اللبنانيين أمام تحديات كبيرة، تتطلب المراجعة والنقد، للخروج «بالتفكير والعمل من آثار المرحلة السابقة التي سيطر فيها الاستبداد والتطرف، وسياسة المحاور، من أجل تكريس «المساواة بين المواطنين وصون الحريات العامة، واحترام التنوع وحق الاختلاف والحؤول دون تفرد الأكثريات من أي نوع كانت».
وما يصلح من هذه الشعارات على عدد من الدول العربية، فإنه لا يستقيم مع لبنان وقواه الممسكة بمصائر اللبنانيين.
لا تشبه الوثيقة، في شقها العربي، وفي وصفها للحراك الثوري في العالم العربي، المسار اللبناني، ولا يمكن التعويل على «الجسم الشعبي» لقوى «14 آذار»، في حمل وتجسيد الشعارات التي رفعتها قوى شبابية عربية، مدنية سلمية، في أكثر من بلد ابتلي باستبداد مزمن.
فهناك هوة من بين الحامل والمحمول. جمهور 14 آذار، بما فيه «تيار المستقبل»، غير قادر على ممارسة مندرجات الثورة العربية وآفاق تطلعاتها، لأنه جمهور، ولد في أحضان الطائفية، وشرب من معينها. وليس مقنعاً البتة، التغني بالجماعات العابرة للطوائف، المكونة لتيار المستقبل ومن معه، والممانعة ومن التحق بها. فمثل هذه التركيبة التلفيقية، لا تستطيع إخفاء التلوينات الطائفية لكل مكون من مكوناتها. فهي ليست مدنية، بل هي تجمع لأكثرية سنية بقيادة حريرية وأكثرية درزية (سابقاً وقد يحصل لاحقاً) بقيادة جنبلاطية، وشريحة مسيحية وازنة، وإن لم تكن أكثرية، بقيادة «قواتية» «كتائبية». كما ان تيار 8 آذار يتكوَّن من أجسام غير مدنية، شيعية بقيادتين شقيقتين، ومسيحية بقيادة جنرال مسيحي. ان مثل هذا التلفيق والجمع بين الجماعات الطائفية في تيار سياسي واحد ومتعدد في آن، لا يلغيان الأسس التي ينبني عليها الحراك التوافقي. الاجسام السياسية في لبنان لا تصلح لقياس الثورات العربية البتة.
إن تياراً من طوائف لبنانية، يصير طوائفياً ولا يمكن أن يتحول مدنياً. وإن من قاد «الثورات» العربية، هو خرج كما قالت «الوثيقة» من رحم اجتماعي تمخض بالمعاناة، لرفض الظلم والاستبداد والقمع وامتهان الكرامة والفساد المنظم والتجويع المريع. وإن ما طرأ على هذه «الثورات» بعد ذلك، باسم تجمعات دينية أو مذهبية أو حزبية لم يكن في أساس الحراك، وإن كان مفهوماً ومتوقعاً بعد نجاح «الثورة»، أو بعد بلوغها مرحلة المواجهة، كما هي الحال في سوريا وكما كانت في اليمن. بدء الثورة كان مدنياً، تقول الوثيقة، ولم يكن مذهبياً.
حامل الثورة كان يشبه شعاراته. جسمه وفكره من قيم إنسانية، ومن قناعة مدنية، ولأهداف ذات شمولية تتخطى الفئوية والحزبية والمذهبية. كانت شعاراته وطنية حقيقية وإنسانية رائدة ومؤثرة حتى في الدول الأوروبية.
جسد 14 آذار، ليس كذلك. هو جسد سني، درزي، مسيحي، يضم إليه نخباً من رجال على خلاف مع طوائفهم.
هذا في الأساس. الوثيقة لا تشبه أصحابها. الثوب فضفاض جداً وليس على قياس تيار المستقبل، ومن معه من جماعات أخرى.
إن امتحان هذه الشعارات لبنانياً يظهر أن «تيار المستقبل» يشبه مساره السابق والراهن، ولا يشبه مسارات «الحراك العربي»، وأن اجتيازه «الروبيكون» والوقوف ضد الاستبداد في سورية، قد جرى اجتيازه سابقاً، بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري. فلا جديد في ذلك.
فالتيار، يشبه نفسه. لقد اختار أن يكون مع ثورات وضد ثورات. فهو مع «الثورة» في سورية، ومع الصراع على سورية أيضاً. ولكنه ضد «الثورة» في البحرين، ويراها حراكاً إيرانياً، (كما تراها منظومة دول الخليج)، على عكس موقف قوى الثامن من آذار، التي ترى الثورة في سورية، مؤامرة دولية، فيما لا ترى في الثورات غير الحراك في البحرين.
ان ما جادت به الوثيقة في شقها العربي، بدا ضامراً جداً، عندما بلغ الكلام الحالة اللبنانية. فما بين شعارات «الربيع العربي» وبين الواقع اللبناني، تفاوت كبير، يغلق أي باب للتغيير. الحراك العربي، يقود عملية تغيير كبيرة. يرتج لها الإقليم كله. أما لبنان، فثابت ساكن لا يتحرك. إنه نقيض للربيع العربي، بكل فصوله السياسية وقواه الطوائفية. والأدلة كثيرة:
أ ـ تقول الوثيقة «لا يشكو لبنان من حيث المبدأ من الافتقار إلى الدولة المدنية، منذ زمن الميثاق الوطني الأول… كما لا يشكو من نقص أو قصور في الولاء الوطني لأبنائه».
هل هذا الوصف صحيح؟ إنه وصف يفتقر إلى الصواب، لا بل إن عكسه هو الصحيح. لبنان يفتقر إلى الحالة المدنية ولديه قصور يصل إلى حدود الانعدام في الولاء الوطني. بل لعل أساس مشكلته، الذي منعه من إنشاء دولة وتأسيس جماعة سليمة الولاء، هو أنه طائفي ومذهبي وفئوي وعنصري، وولاءاته ممتدة من المحيط الهندي إلى ضفاف الأطلسي، مروراً بدول إقليمية متناقضة المذاهب والشعارات.
وإذ تعترف الوثيقة بالاختلالات، فإنها تعزوها إلى موانع، هي من صلب الكيان ومن صلب موقعه الإقليمي. فلبنان اختل واضطرب، بسبب الاحتلال الصهيوني لفلسطين، وميول الطوائف للاستئثار والغلبة، واتخاذ لبنان «ساحة للصراع في أزمنة التوتر» الإقليمي والدولي، ودخول لبنان «في زمن الوصاية والهيمنة الأمنية السورية على لبنان ونظامه»، وأخيراً، كما نصت الوثيقة، «العجز عن صياغة وتطوير مشروع سياسي وطني يحمي الوطن والدولة والنظام».
لا تعترف «الوثيقة» بالعامل الإسرائيلي، في لبنان تحديداً، واجتياح جيش العدو لأرضه مراراً، واحتلاله بيروت والجنوب ونصف البقاع وبعض الجبل. لا تشير الوثيقة إلى التشوهات التي خلقها الاحتلال، في السياسة والنظام والسلطة وسياق الولاءات الخارجية، ولا تلتفت أبداً إلى الآثار المريعة التي خلفها احتلال الجنوب حتى العام 2000. فبسبب هذا العامل الإسرائيلي، حصل خراب لبنان مراراً، وبسبب الاحتلال، نشأت مقاومات متتالية، توالى عليها لبنانيون، علمانيون ومدنيون وحزبيون وعقائديون وتنظيمات لبنانية شتى انتهت إلى استقرار البندقية في يد «المقاومة الإسلامية»، التي حررت الجنوب اللبناني، وأحدثت «اختلالاً» إيجابياً كبيراً، حولته الطائفية والمذهبية، إلى «اختلال أهلي»، و«اختلال سياسي».
هذا النظام الموروث عن الميثاق الوطني «المخروق مراراً، أنشأ دولة هشة، زعماؤها أقوى منها، طوائفها أقوى منها، ميليشياتها أقوى منها، ومقاومتها اليوم، أقوى منها…
إن الخلل في لبنان بنيوي، أي، هو في أساسه، مختل. ولم تتمكن النخب السياسية التي توالت على حكمه، من أن تجترح الحل. وتجربة فؤاد شهاب اليتيمة، انقض عليها تجار الهيكل الطائفي، كأن لبنان، قابل دائماً للتفكك وغير قادر على التوحد… ولو على النزر اليسير.
ب ـ تربط الوثيقة بين المتغير الاستراتيجي الناجم عن انطلاق حركات التغيير العربية ـ وتحديداً التحول الجاري في سورية ـ وبين المسؤولية التي على شباب لبنان أن يتنكبوها، لإعطاء «العيش المشترك» روحاً جديدة. (ماذا يعني هذا الكلام الطوباوي؟ العيش المشترك هو صيغة لغوية شفهية، للعداء المشترك بين المذهبيات اللبنانية)، هذه الروح الجديدة كفيلة بإعطاء دفع جديد للدستور، وإرساء «وطنية لبنانية قائمة على مفهوم المواطنة الديموقراطية… وبناء سياسات تؤدي بالتدريج إلى الدولة المدنية الحقة».
هذا الكلام، لا ينطبق على الواقع. تاريخ لبنان الاستقلالي، يثبت أن المسار الذي بدأ لبنانياً وطائفياً، انتهى إلى محطة صار فيها البلد طائفياً أولاً وأخيراً وبين بين… ولبنان اللبناني، بلد مؤجل، ونظام عاجز، وسلطة فاشلة، وشعب داشر بين عواصم العالم، ولا تجمعه صلة قربى بالوطن المنشود. لقد كان لبنان الاستقلال، مشروع دولة، فشل زعماؤه في إنشائها. وانتهى به المطاف، ليصبح مشاريع لعدد من الطوائف. كانتونات مع وقف التنفيذ.
فبأي آلية، بعد الربيع العربي، وبتأثيره، يمكن بناء لبنان الدولة المدنية العادلة؟ الوثيقة تصمت إزاء هذا السؤال، ولا جواب لديها، إلا بلاغة الإنشاء السياسي.
لا جواب… الأمنيات لا تصنع شيئاً، بل الإرادات.
ج ـ كيف تحل المشكلة السنية الشيعية؟ نصت الوثيقة على أن التوتر الحاصل بين أهل المذهبين سياسياً، يعود إلى ثلاثة أسباب: 1) «خصوصية الوعي المتنامي لدى الطرفين» (لماذا؟ لا جواب!). 2) الصراع على السلطة. 3) «الدخول في سياسة المحاور».
ما الحل الذي تقترحه الوثيقة؟ المواطنة. ولبلوغ ذلك، لا بد من البحث في المشتركات التاريخية بين المذهبين. علماً أن المطلوب هو البحث عن المشتركات الوطنية الراهنة. ولا يمكن حصول ذلك، إلا بعزل السياسة والدولة عن التكوين الديني والمذهبي للجماعات، التي تصر الوثيقة على اعتبارها خاضعة «لقيم المكونات الدينية والإثنية».
المشكلة، كما تراها الوثيقة، هي في الاستقواء، إما بالخارج وإما بالسلاح. وهذا ما أدى إلى تورم هذه الحالة، المعبر عنها، بسلاح المقاومة. ولا ترى الوثيقة في السلاح، أي دور له في المقاومة، وفي تحرير الأرض، وتصر على أنه «سلاح خارج الدولة وعلى حساب الدولة». وفي ظني، أن هذا صحيح، لكنه ضروري. فعندما يصير الاستبداد نظاماً وسلطة وقمعاً، تولد الثورة، كضد. تخرج الثورة عن النظام والقوانين وقد تستعمل السلاح، كما حصل في اليمن وفي سورية، فكيف لا يخرج على النظام وعلى الدولة المستباحة، من احتلت أرضه وأخضع للذل والمهانة والقتل والتهجير والتعذيب والاعتقال؟ كيف لا تخرج مقاومة ضد الاحتلال، بعدما تبين أن الدولة منقسمة، بين مراهن على الاحتلال، ومنتظر لنتائجه، ولم تطلق رصاصة لدحره؟
شرعية الثورة، توفرها أنظمة الاستبداد.
وشرعية المقاومة، توفرها قوة الاحتلال.
لبنان الرسمي في تاريخه، بعد معركة الخالصة، لم يشترك في تحرير أرضه التي احتلت مراراً، واعتدي عليها مراراً.
تسقط الوثيقة عند العتبة اللبنانية، وتجتر كلاماً سياسياً لا يشبه المقدمات النظرية التي جاءت في مقدمة الكلام، على الثورات العربية الرائدة.
د ـ الإشادة بوثائق الأزهر الثلاث، لا تقنع المسيحيين الخائفين. فالمواثيق المكتوبة، غب الطلب السياسي، على ما فيها من قيمة كبيرة، لا تمحو سلفيات وحركات تكفير، لا تزال حية ترزق، وقد فتح لها «الربيع العربي» الأبواب لتعبر عن نفسها، على غير ما يراه الأزهر. حتى «الإخوان» في مصر، رأوا في وثيقة الأزهر، ما أنكروه ورفضوه. فقول لا دولة دينية في الإسلام، قول حقيقي وإثباته ناصع البراهين، لكن، من يقنع الرعاع الذين يتتلمذون على جهلة متعصبين تكفيريين، يرون النص الإسلامي سيفاً، لا رحمة؟
هـ ـ لا شيء حتى الآن، يشير إلى أن «الربيع العربي»، قد عبر إلى فلسطين، أو قد اجتاز حصار غزة على الرغم من فوز الإسلاميين بأكثرية ساحقة في مصر، علماً أن ربيع فلسطين قد بدأ سابقاً في لبنان. فانتصار المقاومة العام 2000، أشعل «الربيع الفلسطيني» في انتفاضة الأقصى التي دمرها شارون، وتخلى عنها وعن قائدها «أبي عمار»، من يتبرع من عرب الخليج بخوض معارك «الربيع العربي» الانتقائية.
نحن، كلبنانيين، جزء من الربيع العربي في طرد الاحتلال. ولا يجوز حذف هذا الإنجاز، واعتبار ربيع 14 آذار وحده، هو بدء الربيع العربي.
هذه الوثيقة، تصادق ثورات، وتعادي ثورات. تصادق استبدادات وتعادي استبدادات. أما في الداخل، فلا تزال ترى إلى سلاح المقاومة على أنه سلاح الفتنة فقط، ويلزم تقييده، سلماً وحرباً، بدولة مشكوك بصلاحيتها كدولة في مكافحة فاسد او مرتكب، بسبب ما توفره دويلات الطوائف من حماية لمرتكبيها.
تختم الوثيقة نصها بالآية الكريمة: «فأما الزبد فيذهب جفاءً، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض» (سورة الرعد: 16).
قليل من الوثيقة ينفع «الربيع العربي»، وقليل منها ينفع قسماً من اللبنانيين… أما الباقي، «فزبد يذهب جفاءً».

السابق
إشكالية كلام البطريرك في ذكرى انتخابه
التالي
سمعان: نجحت لأن المشاهدين كرهوني