القرصنة الحميدة 

منذ عشرين عاماً، وكل من تربّع على رأس سلطة في لبنان يتحدث عن تشجيع الاستثمارات الأجنبية. وتحت شعار تشجيع الاستثمارات، ارتكبت كل الفظائع بحق البلاد واقتصادها، وسُرق الوسط التجاري، وأُهدرت الأموال لإعادة بناء بنى تحتية لم تكتمل، وتُرك القطاع الخاص، وتحديداً قطاع المصارف، لينهب ويشارك في نهب البلاد باسم سندات الخزينة والديون.
كل شي بانتظار مجيء استثمارات أجنبية لم تأت، مع الكثير من الوعود بأن مجيء الاستثمارات سيؤدي إلى رفع حجم الوظائف، وبالتالي فإن الخير سيعمّ كل المواطنين، وسيتدفق السياح على البلاد، وسيغطي المدخول من القطاعات غير المنتجة التضخم، وسيشهد البلد نسباً مرتفعة من النمو، وتحليلات يومية عبر شاشات التلفزة تقنع الرأي العام بأن الغد سيكون أفضل من اليوم بما لا يقاس.

وفي غمرة هذه الدعاية، جرى تصوير احتكار المعلوماتية والبرامج والإنتاج الفكري كأنه مدخل ضروري لمجيء الاستثمارات في القطاع المعلوماتي والفكري وصناعة التسلية. ومع مضي الأعوام، بدت البلاد أشبه بصحراء، الإنتاج فيها قليل، والحياة فيها أصعب كل يوم، وهي تغرق في رمال أزماتها المتحركة.
دخل لبنان الألفية الثانية مع قانون يمنع تزوير البرامج، ويلتزم بالشروط الأميركية لحماية الملكية الفكرية، مع وعود من شركة مايكروسوفت التي احتكرت معظم السوق العالمية، بتوزيع برامج على المدارس وتقديمات عالية في حال التزام لبنان بتطبيق قانون أصدره مجلس نوابه لمنع القرصنة، وكانت أعمال القراصنة اللبنانيين تقتصر على بعض الحروب الصغيرة ضد مواقع إسرائيلية وضد هواة قرصنة من كيان العدو.

ومع الألفية الثانية، وكل عام يمر، كانت وعود مايكروسوفت كما نقلتها جهات حكومية آنذاك تتقلّص، بدل خلق فرص عمل إضافية باتت تجني الأرباح من مكتب صغير في الوسط التجاري يتولى أعمال الشركة في لبنان، وباتت السوق تنحصر في برامجها، وأصبح من الصعب إدارة أعمال من دون شراء البرامج الشرعية من الشركة الأميركية المحتكرة لمعظم الأسواق الإلكترونية، وبات تجار الشنطة الذين كانوا يشبعون حاجات السوق المحلية إلى البرامج الحديثة المقرصنة تحت المطاردة القانونية من قبل الشركة الأميركية.

ومعها تراجع القراصنة اللبنانيون عن العمل على مواقع العدو، وبات الأمر بحاجة إلى جهد منظم من جهة مهتمة بخوض الحرب الإلكترونية، وجرى كبح «المبادرة الفردية» في المشاركة في الحرب الإلكترونية عبر تقليص القدرة على الحصول على برمجيات حديثة، واختبارها، كما عبر تدنّي نوعية شبكة الاتصالات والكلفة العالية للاتصال بشبكة الإنترنت وملاحقة المخالفين من القراصنة، وتخلّف قطاع التكنولوجيا عموماً في البلاد واحتكاره من قبل شركات تابعة سياسياً لهذا الطرف أو ذاك، وتراجع الاستثمارات الموعودة أيضاً، ما قلّص كل اهتمام حقيقي بتطوير القدرات لاستخدامها محلياً.

ومع مضي الأعوام، بدأت الرقابة تخف على البرمجيات وعلى قطاع الإنترنت عموماً، مع عدم تطويره على نحو حقيقي ليلحق بركب المنطقة، حتى لا نقول العالم.
قبل أن تبدأ وزارة الإعلام بمحاولة قمع المواقع الإلكترونية، كان كل القطاع متروكاً لمصيره ولطمع بعض الشركات. ولكن، لحسن الحظ، فإن البرمجيات المقرصنة عادت للتوافر، وبأسعار تشجيعية، وعاد الشبان إلى ممارسة القرصنة. غالبية منهم ذهبوا في اتجاه المعارك الكبرى، وفي اتجاه ضرب مواقع العدو الإسرائيلي. ولكن ثمة شيء ما محبط فعلاً في هذه البلاد، يدفع من يكبرون إلى التعبير عن حالة رفض لكل شيء، ليس فقط من منطلق عوارض النمو، بل، أيضاً، من منطلقات الآفاق المغلقة حياتياً ومهنياً أمامهم.

ها هي مجموعة «قراصنة لبنان» تخرج من ضرب المواقع الإسرائيلية لتتجه إلى ضرب المواقع الحكومية اللبنانية. وهي منذ أسابيع تتولى ضرب مواقع البلديات والوزارات، وتضع على هذه المواقع رسالتها التي تحمل سذاجة سياسية، ولكن فيها تبرّما واضحا وإحساسا صادقا بما يدور في البلاد، من «المسؤولين الذي نسوا الناس» إلى رفض «بالروح بالدم نفديك يا بطيخ».
اكتشفت هذه المجموعة، المكوّنة من بضعة شبان لم ينهوا أعوام الدراسة الثانوية بعد، ضعف المواقع الحكومية، وتمكنوا من اختراقها، واكتشفوا أن في إمكانهم الدخول إلى الخوادم (servers) في الحكومة اللبنانية، التي أنشئت بغالبيتها المطلقة بموجب منح ومساعدات من المنظمات الأميركية والدولية، والتي تعمل ببرامج شركة مايكروسوفت، وبعد اختراقها الذي يطمحون إلى أن يؤدي إلى إيصال صوتهم للمسؤولين، تركوها سالمة من دون عبث بخوادمها.
لم يفكر الشبان في الخطوة التالية، وهم اليوم اكتشفوا أن المسؤولين ربما لن يحركوا ساكناً، وهم يفكرون في شيء آخر يمكنه أن يعبّر عمّا يحلمون به في بلادهم، ولكن في كل الأحوال فإن بعض القرصنة حميد، وربما مفيد وضروري.

السابق
هل تزوّجت كارول سماحة من طليق نجوى كرم؟!
التالي
أميركا تحذّر من بعلبك