ميثاق بعلبك: الثأر لا يغسل العار

يسقط ضحايا أبرياء في الغالب بين وقت وآخر في منطقة بعلبك – الهرمل، وفي مناطق أخرى من لبنان، والتقارير الأمنية تذكر أنّ «الأسباب ثأريّة»، وهو تعبير يكفي ليفهم الجميع أنّ المسألة خارج سيطرة العقل والدولة معاً. فعادة الثأر موروثة منذ العصور الجاهلية، وتكمن في الغرائز والسلوكيّات، منذ أن كانت العرب تعتقد أنّ طائراً يُسمّى»الهامة»، يخرج من رأس القتيل ويصيح: «اسقوني اسقوني..»، فيثأرون من القاتل، ويسقون من دمائه طائر «الهامة».

"أخد التار مَنُّو معيار"، "ما تخلّو إبنكم يروح رخيص"… وغيرها من العبارات التي تتردّد في وسط العشيرة، لحظة سقوط أحد أبنائها برصاص بعض الاشخاص، فتغلي دماء الثأر في عروق شباب العشيرة، وترمى العباءات والكوفيّات والعقالات على
"ضريح القتيل"، وتعلو الصرخات من أقاربه وأبناء عشيرته معاهدة: "وحياة شرفك مِش رح تروح رخيص"…، لا بل إنّه في أكثر الاحيان يأتي أهل القتيل، بالقاتل الى ضريح ضحيته، ويعدمونه فوق القبر وسط الزغاريد وإطلاق العيارات الناريّة ابتهاجاً…

هذه العادة المتوارثة عن العهود الجاهلية، وإن تراجعت أو خفتَت حِدّتها، إلّا أنّها ما زالت متأصّلة في نطاق العشائر في مناطق بعلبك ـ الهرمل، وعكّار، وزغرتا وبشرّي… والتي تعتبر في مفاهيمها أنّ "غسل العار يكون بأخد الثار".

وعادة الثأر المتوارثة كرّستها ضغوط اجتماعيّة، تربط اعتبار صاحب الثأر ومكانته ومهابته بإقدامه على أخذ ثأره من القاتل، الذي يسمّى وفق المفاهيم العشائرية والعائلية بـ"الغريم"، ومن تخلّى عن هذا الدور يُصنَّف في بيئته جباناً متخاذلاً وبعيداً عن الشرف والرجولة.

وغنيٌّ عن القول إنّ للسلطات دوراً رئيسيّاً في الحدّ من هذا المرض الاجتماعي، لكنّها لم تؤدِّه في الشكل المطلوب، إذ تغاضت عن جرائم ولم تُنزل أحكاماً عادلة في حقّ مرتكبيها لأسباب وظروف شتّى. في المقابل اندفعت العشائر في تفعيل قوانينها وأحكامها.

يعتبر الدكتور عثمان دلول "أنّ الدولة لم تتمكّن دوماً في بعلبك من أداء واجبها في الاقتصاص من القتَلة، لا بل قصّرت أحياناً في القيام بهذا الواجب الأساسي، وكانت النتيجة إبقاء واجب الاقتصاص من القاتل على مسؤولية ذوي القتيل.

وشهدت منطقة بعلبك ـ الهرمل حالات "ثأريّة" كثيرة، منها ما رواه محمود. ي. لـ"الجمهورية" عن الطريقة التي ثأر فيها لمقتل والده من خلال قتل "غريمه" عبّاس. ط. داخل قاعة محكمة جنايات زحلة عام 1974، فقد عمد محمود الى التنكّر بزيّ محامٍ بعدما اشترى ثوب محاماة من محلّات طانيوس خويري في بيروت، وصبغ شعره واعتمر قبّعة، ووضع نظّارة سوداء، ودخل بكلّ وقار إلى قاعة المحكمة، وتوجّه نحو قفص الاتّهام حاملاً حقيبة جلديّة، ليطلق رصاصتين على قاتل أبيه كانت كافية لقتله، ثمّ سارع الى وضع مسدّسه على طاولة أمامه رافعاً يديه حتى لا يتعرّض لإطلاق نار من عناصر الأمن الذين كانوا مع هيئة المحكمة وعدد من المواطنين ممّن يتابعون المحاكمة في حالة ذهول وذعر مستغربين ومتسائلين: من هذا المحامي الذي أطلق النار؟!

"… قتلتُه كي لا أقتلَ غيره وأظلمه"، قال محمود متابعاً: "فعادة الثأر تفرض عليك أن تقتل شخصاً ما تقوم قرابة دمويّة بينه وبين من قتل شخصاً من عائلتك، أخاك أو أباك أو ابن عمّك، فعليك أن تقتل أخاه أو أباه أو ابن عمّه، لأنّك لن تستطيع قتل القاتل نفسه الذي يكون قد فرّ الى الجرد وأصبح من الطفّار، على ما يقولون، أو تمّ القبض عليه، وصار في قبضة العدالة، فلن تستطيع الوصول إليه لقتله والثأر منه غسلاً للعار الذي لحق بك. أنا لم أستسهل سبل الثأر وغسل العار المفروضين عليّ، فاخترت أصعبها وقرّرت قتل القاتل نفسه وشخصيّاً، وسلّمت نفسي للعدالة. ثمّ إنّ القاتل كان من محازبي منظمة "الصاعقة" العسكرية الفلسطينية، والسورية الولاء. وكنت أعلم أنّه سيحاكَم ويُسجَن سنتين أو ثلاث، يطلقونه بعدها أو يدبّرون عملية ما تمكّنُه من الفرار من السجن. فطوال الأشهر العشرة التي تلت قتل والدي، عشت حياة الهوان والمَذلّة بين أهلي وفي المجتمع البعلبكي، مطارَداً باللوم والضغوط التي تنهال عليّ من الناس الذين كان كلّ شخص يراني منهم، يقول لي لائماً مُحرِّضا: "يالله خلاص شو ناطر؟!"، أي اقتل أحداً واغسل عارك وتخلّص منه. لقد كانت حياتي في الأشهر العشرة تلك جحيماً خالصا".

حسن .ن. تحدّث لـ"الجمهورية" كيف قضى الليالي متربِّصاً لـ محمد. س. قاتل شقيقه، والذي كان "طافشاً في الجرود": "كنت أنتظره كلّ ليلة عند معبر جردي قيل لي إنّه يقصده دائما وهو مسلّح، ومعه كلب بوليسي شرس، وذات يوم تعرّضت للسعة ثعبان فيما كنت مرابطاً في مكاني قرب صخرة، لم يكن يومها يوجد هاتف خلوي، ركبت سيّارتي (البيك- آب) وقدتها بصعوبة بالغة وكاد السمّ ينتشر في جسدي قبل أن أصل إلى أوّل طبيب في البلدة، وعدتُ الى المهمّة نفسها في الايّام التالية بعدما تعافيت، حتى فوجئت ذات ليلة مقمرة بـ"غريمي" مع كلبه قرب جدول ماء في وادي يعرف بوادي الموت، صرختُ به "يا محمد لا تقل إنّي غدرتك…"، وأطلقت رصاصاتي نحوه، فقتل فوراً وقتلت كلبه الذي حاول مهاجمتي، وأتيت بسلاحه حتى يراه أبناء عشيرتي دلالة على أداء مهمّتي".

وأضاف حسن: "بعدما عمَّ الخبر أوساط عشيرتنا، زرنا ضريح شقيقي وأطلقنا النار قربه فرحاً وسط زغاريد النساء ومن بينهنّ أمّي وشقيقاتي".
 
والثأر وفق منطق العشائر تكريس للقوّة والحضور المشرّف، فعندما يسقط قتيل من أبنائها تتداعى العشيرة الى منزل شيخها "للبحث في السبل للثأر من القاتل، ويتمّ الاتّفاق على تحديد الشخص الذي سيكلَّف مهمّة "الثأر"، في الوقت الذي تنتظر عشيرة القتيل أن تبادر العشيرة التي ينتمي اليها القاتل إلى تسليمه لها أو محاكمته وفق المنطق العشائري، "لأنّ أبناء العشيرة في لبنان لا اقتناع لديهم بالقضاء، فهو لا يقتصّ من المجرم كما يجب". فمن المعيب لدى العشائر الثأر من المرأة أو الطفل أو المُسِنّ. ومن عاداتها ايضا اللجوء الى الصلح في هذه الحالات بعد دفع الديّات.

ويروي المُسِنّون حادثة مشهورة حصلت في البقاع الشمالي عندما حاول أحدهم قتل أحد الأشخاص، فما كان من زوجته الحامل إلّا أن وقفت في وجهه تستحلفه بالله ألّا يقتل زوجها، إلّا أنّ رصاصة القاتل كانت أسرع وأردتها قتيلة، فتوافقت العشائر بعد هذه الجريمة على أن تدفع عشيرة القاتل أربع ديّات، الأولى عن مقتل المرأة، والثانية عن كونها امرأة، والثالثة عن الجنين الذي كانت تحمله في بطنها، والرابعة عن عدم استجابته لاستحلافه بالله.

وفي رأي عدد من الباحثين "أنّ مفاهيم الثأر الموجودة ضمن النظام العشائري كانت تسمح لطالب الثأر بأخذه من عائلة القاتل حتى درجات بعيدة من القرابة، فيحقّ له بذلك قتل أبناء عمّ هذا القاتل مثلا، ولكنّ هذا الصراع ما بين التقليد العشائري الناجم عن الاعتقاد بوجود علاقة وثيقة بين عملية القتل وجميع من ينتمون إلى عائلة القاتل، وبين وجوب الفصل بين هذا القاتل وأهله وخصوصا الأبعدين منهم، لأنّ هذا القاتل ليس بالضرورة أن يكون على حق دائما، ولأنّه كثيراً ما يكون هناك خلاف بينه وبين أقربائه ممّن توجب العشيرة قتلهم في الثأر، هذا الصراع أدّى إلى صدور ما يشبه القرارات العشائرية التي تلزم طالب الثأر بالاكتفاء بالبحث ضمن إطار أضيق وهو أسرة القاتل فقط، وبذلك تكون هذه الدائرة قد ضاقت بما يتيح تعبيد الطريق نحو التخلّي عن هذه الظاهرة أيضا والانتقال بها إلى الدوائر الرسمية والقانونية لمعالجة مثل هذه الأمور التي لا تجلب إلّا الويلات، وخصوصا إذا ما استمرّت عمليّات الثأر في حصد أرواح كلّ من يقتل ومن ثمّ كل من يثأر وهكذا دواليك"…

والثأر في مجتمعنا اللبناني تمادى حتى صار أبناء العشيرة أو العائلة ينتقمون من رجال الأمن والسلطة، في حال كان مقتل أحد أبناء العشيرة على أيدي هؤلاء، وحصلت حالات عدة في هذا المجال، منها إقدام شباب من آل جعفر على إطلاق النار على الملازم الأوّل في قوى الأمن عزمي الأيوبي، على طريق القلمون في أيلول 1980، وقتله انتقاما لمقتل أحد انسبائهم على يد عناصر دوريّة من قوى الامن في مدينة بعلبك كان على رأسها الضابط الأيوبي، وفي أيّار 2009، أقدم أشخاص من آل جعفر على نصب مكمن لضابط في الجيش على طريق رياق في البقاع، وإطلاق النار عليه لاتّهامه بقتل أحد أبنائهم على حاجز للجيش في حيّ الشراونة، وأُصيب الضابط بجروح بالغة، فيما استشهد عدد من العسكريّين الذين كانوا برفقته… وغيرها من روايات كان الضحايا فيها ضبّاط وعناصر أمنية.

وإذا كانت العشائر قد اتّصفت بعادات الكرم وحبّ الضيف وإغاثة الملهوف، ونصرة المظلوم، إلّا أنّ عادة الثأر من أقبح العادات التي تترسّخ في مفاهيمها.

وكان الإمام المغيَّب السيّد موسى الصدر قادَ في الماضي حملة واسعة للقضاء على العادات السيّئة الّتي تكرّس الانقسام وتحول دون تطوّر المجتمع ورقيّه. ومن ذلك دعوته أبناء العشائر في منطقة بعلبك ـ الهرمل إلى أداء قسم "يمين الوفاء" لميثاق يؤكّد التزامهم عدم حماية القاتل في عشيرته، وعدم أخذ الثأر من أقربائه الأبرياء. وكان له نداء إلى أهالي بعلبك ـ الهرمل، لكي يطفئوا "شهوة الدم" ويقبلوا أن يكون هو الضحيّة ويأخذوا الثأر منه، أو يلتحقوا بـ"نهر الدم المقدّس في مسيرة الفداء على دروب القدس".

وفي مرجة رأس العين في بعلبك، في تموز 1970 ولمناسبة مرور سنة على تأسيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، عُقد لقاء ضمّ ألوفاً من المواطنين من جميع العشائر، وشارك فيه جميع رجال الدين من كافّة الطوائف، وقرأ الإمام الصدر نصّ اليمين على تنفيذ هذه البنود وردّدها جميع الحاضرين. فكان أنْ وقّع نحو 1500 شخص من وجهاء المنطقة على وثيقة الالتزام بتَرك هذه العادة، وأقسموا اليمين على ذلك.

وتضمّن ميثاق بعلبك للتخلّي عن عادة "الأخذ بالثأر" الآتي:

– كلّ شخص يرتكب أيّ جريمة مهما كان نوعها ومهما كانت دوافعها نكون بريئين منه ومن عمله ويكون وحده مسؤولاً عمّا اقترفت يداه.

– إنّ مرتكب الجريمة كائناً من يكون، وإلى أيّ عشيرةٍ أو عائلةٍ انتمى، يُعتبَر منبوذاً لدى الجميع، وخصوصاً لدى أبناء عشيرته أو عائلته، ويُحرم من كلِّ عون أو مساعدة، مادّيةٍ كانت أو معنويّة، كما يمتنع الجميع عن إيوائه أو التستّر عليه، بل نكون جميعاً ضدّه وحرباً عليه.

– يُلاحَق المجرم شخصيّاً ولا يؤخذ بجريرة عمله أيّ إنسان آخر من أقربائه أو ممّن يمتّ إليه بصلة مهما كانت درجتها، وتكون المسؤوليّة كاملة على من يطالب بريئاً بذنب مجرم.

– كلّ من يخالف هذه القاعدة أو يشذّ عنها لا يحقّ لعائلته أو أيٍّ من أقربائه مناصرته أو تأييده أو المطالبة به والمحافظة عليه، بل يكون كلّ منّا ومنهم خصماً له". 

السابق
غصن:بري محشور بخلافات نواب 8 و14 آذار
التالي
روليت سورية