السفير: الاتفاق بالتراضي: التسويات قبل الخبز أحياناً!

… وهكذا «انتصرت» التغطية السياسية لاتفاق تصحيح الأجور بين أرباب العمل والعمال، بعد تحصينه بـ«القوننة الموجهة»، حتى بدا أن المسافات الاجتماعية انتفت كليا بين طرفي الإنتاج، في مشهد أعاد التذكير بـ«صلابة» النظام السياسي الاقتصادي الاجتماعي، من جهة، واستحالة المس بركائزه كافة، من جهة ثانية، بحيث أعاد الاصطفاف الواسع في مجلس الوزراء لصالح مبدأ الاتفاق الرضائي (لم يخرقه سوى اعتراض شربل نحاس)، إنتاج الشراكة بين مكونات السلطة السياسية والأهم السلطة الاقتصادية المتحكمة بمفاصل البلد منذ «زمن القناصل» وحتى يومنا هذا.
في السياسة، بدت النتيجة جلية: «الاستقرار السياسي أولا»، ولذلك، انضبط أهل الحكومة بمنازلهم المتضاربة، تحت سقف إرادة دولية وإقليمية عنوانها النأي بلبنان عما يجري حوله من تطورات، فالزمن اللبناني الراهن «ليس زمن إصلاح وتغيير ولا ثوار وثورات ولا زمن يسار أو شربل نحاس» على حد تعبير أحد الوزراء.
وفي السياسة أيضا، بدا أن شربل نحاس وقع ضحية تسوية سياسية، توّجها «العشاء السري» بين العماد ميشال عون ورئيس الحكومة نجيب ميقاتي في منزل الوزير جبران باسيل، ليل أول أمس، وهي الواقعة التي لم يكن أحد معنيا بأن يضعها ولو من باب العلم والخبر، أمام «الوزير المشاكس»، بما في ذلك أثناء اجتماعين سبقا مجلس الوزراء، الأول ضم وزراء «التكتل» والثاني وزراء «الحلف الثلاثي»، ليتبين لنحاس عند طرح الأمور على التصويت أن ثمة قرارا متخذا، وأنه بدا كمن يغرد خارج السرب الحكومي.
وفي السياسة، أيضا، يمكن القول إن الأزمة لم تنته، بانتظار ما سيقرره شربل نحاس في الساعات المقبلة، فهو كان واضحا عندما كرر على مسامع رئيس الحكومة وكل الوزراء أنه لن يوقع المرسوم الجديد، وبالتالي، يصبح السؤال الكبير، أي قرار سيتوصل اليه نحاس في المراجعة التي سيبدأها اليوم، ولو أنه منذ لحظة خروجه من السرايا الكبيرة، الى منزله في الأشرفية الذي لن يغادره اليوم، بات يتصرف على أنه سياسيا أصبح خارج الوزارة.
وهنا، يـبدو نحاس أمام أكثر من خيار، أولها وأسهلها اعلان اسـتقالته من الحكومة، وثانيـها أن يتشـبث بمـوقفـه ولو كانت كلفته إقدام «أهل الحكومة»، على إقالته، وثالثها، أن يوقع المرسـوم ويقرر اسـتكمال تجربته في الحكومة، بتواضع أكبر ومن دون كبير أوهام حول «التغيير والاصـلاح» أو «التـناغم بين المقاومـة والإصلاح».
ماذا جرى في جلسة مجلس الوزراء أمس… وقبلها؟
أقر المجلس خلال جلسته أمس صيغة قانونية للاتفاق الرضائي الموقع بين الهيئات الاقتصادية والاتحاد العمالي العام، فتقرر تحديد الحد الادنى الرسمي بـ675 الف ليرة لبنانية، وإقرار زيادة قدرها مئة بالمئة على الشطر الأول من الأجر حتى 400 الف ل. ل. على ألا تقل الزيادة عن 375 ألف ل. ل.، وزيادة قدرها 9 بالمئة على الشطر الثاني من الأجر بين 400 الف ل. ل. ولغاية مليون وخمسمئة الف ليرة لبنانية، على ان يصار، بغية احتساب هذه الزيادة، الى تنزيل مبلغ 200 الف ليرة لبنانية من الأجر الاساسي.
كذلك تؤخد بعين الاعتبار، وتحسم من الزيادات المقررة، الزيادات التي منحت سابقاً منذ تاريخ 1/1/2010. وفي هذا الإطار تم تكليف وزير العمل اعداد مشروع قانون يرمي الى الإجازة للحكومة تحديد آلية تعويضات النقل واقتراح المقتضى لإعداد منح التعليم للمستخدمين والعمال على انه، وحفاظاً على الانتظام الاجتماعي العام، وعطفاً على الاتفاق الذي تم بين فريقي الانتاج في قصر بعبدا بتاريخ 21/12/2011، تقرر إبقاء بدل النقل اليومي ومنح التعليم وذلك لحين صدور هذا القانون.
وجاءت ولادة هذه التسوية تتويجا لمسار من البحث بدأ ثنائيا بين التيار الوطني الحر وحزب الله قبل حوالى 10 أيام، ثم  أصبح ثلاثيا مع مشاركة حركة أمل في إنضاج المخرج، ليكتمل تظهير صورة التسوية مع العشاء الذي ضم الرئيس نجيب ميقاتي والعماد ميشال عون والوزير جبران باسيل أول أمس.
وقد حاول نحاس في مستهل الجلسة ان يعطي فرصة لمشروعه الاصلي الذي يعين الحد الأدنى بـ800 ألف ليرة بعد دمج بدل النقل فيه، ولكن بدا سريعا ان المناخ العام في مجلس الوزراء غير مؤات للسير في هذا المشروع، فطرح عندها نحاس الصيغة التي كان قد أعدها لقوننة الاتفاق بين الاتحاد العمالي العام والهيئات الاقتصادية، وبعد نقاش، تم توزيع الزيادة على اساس شطرين للأجر انسجاما مع ملاحظة مجلس شورى الدولة الذي كان قد رفض الزيادة المقطوعة.
وعند الوصول الى بدل النقل، طلب نحاس أن يصدر حصرا في قانون حتى يكتسب المشروعية لان صدوره بمرسوم هو غير قانوني، ولكن عددا من الوزراء لفتوا الانتباه الى انه يجب عدم إثارة القلق لدى العمال من خلال تجاهل الإشارة الى بدل النقل ومنح التعليم في قرار تصحيح الاجور، ولا بد من تأكيد استمرار سريان هذين الحقين لطمأنة الأجراء على ان يتم لاحقا إقرارهما في قانون، وبعد أخذ ورد عرض الامر على التصويت، فنالت وجهة نظر نحاس 8 أصوات (حزب الله والتيار الوطني الحر) بينما صوّت ضدها باقي الوزراء ومن بينهم أعضاء في تكتل التغيير والإصلاح: وزير الصناعة فريج صابونجيان ووزيرا المردة فايز غصن وسليم كرم ووزير الحزب الديموقراطي مروان خير الدين.
وإثر اتضاح النتيجة، امتعض نحاس وقال انه لن يوقّع المرسوم لانه لا يريد ان يغطي مخالفة القانون، فتدخل لديه عدد من الوزراء ومن بينهم الوزير محمد فنيش، سعيا الى ترطيب الأجواء وتليين موقفه.
وعلمت «السفير» ان الرئيس ميقاتي خاطب الوزير شربل نحاس في نهاية الجلسة قائلا: نحن متفاهمون معك، ومشينا بالجزء الأكبر من الصيغة القانونية التي وضعتها، ولا نية للانتقاص من دورك، والمسائل لا تعالج بالعناد بل بالهدوء والتعاون لما فيه الخير العام. إن إقرار مرسوم تصحيح الأجور إشارة إيجابية وننتظر منك تسريع إعداد مشروع القانون لبدل النقل، ونحن نريد الآن فتح صفحة جديدة.

عشاء ميقاتي ـ عون
وشروط فتح الصفحة الجديدة نوقشت أول أمس خلال العشاء الذي جمع ميقاتي وعون وباسيل في منزل الأخير، وتخللته مصارحة متبادلة حول مآخذ كل طرف على الآخر، ونظرة كل منهما الى كيفية تفعيل العمل الحكومي، ويبدو ان أولى مفاعيل هذا اللقاء سرت على طاولة مجلس الوزراء من خلال تسهيل ولادة صيغة تصحيح الأجور وتأمين المظلة السياسية لها، فيما أملت أوساط تكتل التغيير والإصلاح في ان يترك هذا العشاء أثرا إيجابيا على وضع الحكومة والعلاقة مع ميقاتي، «من دون ان يعني ذلك المبالغة في التوقعات لأن هناك تباينات ما زالت قائمة بيننا»، علما انه وغداة العشاء أقر مجلس الوزراء أمس مبلغ 16 مليون دولار هي قيمة مشاريع صرف صحي لمنطقة البترون والتي كان يطالب بها الوزير جبران باسيل منذ أشهر من دون الاستجابة له، الى ان مرت البارحة بعد تدخل ميقاتي لدى مجلس الإنماء والإعمار.

باسيل… ومعالجة الخلل
وقال الوزير جبران باسيل لـ«السفير» إن الحكومة ككل هي الرابحة من حسم ملف الأجور بالصيغة المعتمدة، وبالأخص الوزير شربل نحاس، خلافا لما يظنه الكثيرون، ذلك انه بفضل جهد الوزير وإصراره على إعادة الانتظام الى بنية الأجر، تمت معالجة الخلل المزمن الذي اتسمت به آلية تصحيح الأجور منذ عام 1995.

فنيش: دعمنا نحاس
وأبلغ الوزير محمد فنيش «السفير» ان موقف حزب الله في مجلس الوزراء كان منسجما مع موقف وزير العمل لجهة ضرورة تصحيح الأجور على قاعدة مراعاة القوانين. ولفت الانتباه الى ان صيغة قوننة الاتفاق بين الاتحاد العمالي والهيئات الاقتصادية، كما أعدها نحاس، أفضت الى تصحيح مسار كامل، وإعادة وضع آلية تصحيح الأجور وتعيين الحد الأدنى على السكة القانونية السليمة التي تراعي الضوابط المحلية والالتزامات الاقليمية والدولية للبنان، مشيرا الى ان لجنة المؤشر استعادت دورها في هذا المجال وأصبحت حدود تدخل الدولة معروفة، وهذا إنجاز للوزير نحاس.
وأوضح ان وزيري الحزب صوّتا الى جانب طرح نحاس بوجوب عدم إصدار بدل النقل في مرسوم لانه غير قانوني، وبالتالي ضرورة إدراجه ضمن مشروع قانون يحال الى مجلس النواب، ولكن بعض الوزراء ارتأوا ان من الأفضل تكريس بدل النقل من حيث المبدأ بانتظار رفعه الى مجلس النواب، من أجل إعطاء العمال إشارة إيجابية تطمئنهم الى ان حقهم المكتسب ببدل النقل مصان، فخضع الأمر الى التصويت وكانت النتيجة المعروفة.
«الاتحاد»… وكلفة الوقت
من ناحيته، قال رئيس الاتحاد العمالي العام غسان غصن لـ«السفير» ان ملف الأجور أقفل بعدما دفع العمال ثمن الوقت الضائع، ودعا الى ان يتضمن مرسوم تصحيح الأجور مفعولا رجعيا لثلاثة اشهر، من أجل تعويض فترة الانتظار على الأجراء. وطالب بمتابعة موضوع الأجور مستقبلا عبر لجنة المؤشر حتى لا تتكرر مجددا دوامة الانتظار، وبذلـــك نكون قد مأسســـنا اللجنة. وأكـد حرص الاتحاد على الحقوق المكتسبة والحوار الاجتماعي.
«الهيئات»: انتصر التعاقد الحر
وقال أحد ممثلي الهيئات الاقتصادية ورئيس جمعية تجار بيروت نقولا شماس ان ما حصل في مجلس الوزراء هو انتصار لمبدأ التعاقد الحر الذي كرسه اتفاق الهيئات والاتحاد، مشيرا الى انه وبعد مخاض عسير تغلب المنطق الاقتصادي – الاجتماعي على الاعتبارات السياسية. وأضاف: نحن كهيئات اقتصادية طوينا الصفحة من دون تأثيرات سلبية على العلاقة بين طرفي الإنتاج ووزارة العمل لأن الوزارة شريك أساسي في صياغة عقد اجتماعي جديد في لبنان  

السابق
الانوار: صرخة في وداع ضحايا كارثة الانهيار: أين الدولة؟
التالي
الراي: حكومة لبنان تحاول إنقاذ ماء وجهها اجتماعياً … قبل عاصفة التجديد للمحكمة الدولية