مِن أمِّيّ في الرابعة والعشرين إلى صاحب ديوان شِعر في الخامسة والسَّبعين محمد عبد الحميد حيدر: حقّقتُ شيئاً يسيراً من طموحاتي المعرفيّة

الشّاعر محمد عبد الحميد حيدر (الحاج أبو حمزة)، هو الآن في الخامسة والسبعين من عمره وهو أبٌ لعشرة أولاد (8 شباب وبنتان). كان حلم حياته الأثير، ومنذ تفتُّح وعيه على الدنيا، أن يقرأ ويكتب، لكن لم تمكّنه، ظروفٌ كثيرة، من بداية تَلَمُّس تحقيق حلْمه هذا كاملاً، إلاَّ منذ وقوفه على عتبة عامه الرابع والعشرين. فبعد رحلة سنواته التَّعلُّميَّة الذاتيّة، الطويلة والشَّاقّة، تكلّلت معاناته في ذلك، بإصدار ديوانه الشعري الزجليّ، تحت عنوان: "الشَّيب يُزهر شِعراً" (في طبعة خاصة 2011) والذي شكَّل مناسبة هذا الحوار:
• لو تُخبرنا شيئاً عن حياتك وخصوصاً عن الأعمال التي اتخذتها مصدراً للرزق؟
ولدتُ في بلدتي رامية، في الجنوب اللبناني لأُسرةٍ من الفلاَّحين، ولذا فلقد عملتُ في الفلاحة ورعي الماشية مع أهلي، في وقت مبكر من طفولتي. ثم، بعد ذلك، صرتُ أفكّر في البحث عن عملٍ آخر لتأمين مستقبلٍ أفضل. وفي بداية مراهقتي ذهبت إلى مدينة بنت جبيل حيث تعلّمت صناعة الأحذية. وفي العام 1952 كان أو مشوارٍ لي إلى مدينة بيروت، وقد تردّدت إليها حتى العام 1956 أي في السّنة التي تزوجتُ فيها. وفيها اشتغلتُ مع نجّارٍ للباطون لمدة أربعة أشهر، بحيث أتقنتُ هذه المهنة ومارستها، لاحقاً، في قريتي والقرى المحيطة بها إلى أن أصبحت مقاولاً وفي نطاقٍ محدود. وفي العام 1977 سافرتُ إلى السعودية ولمدة أربعة أشهر، ثم عدتُ إلى لبنان. وبعد عامين من ذلك، قصدتُ السعوديّة ثانية، ثم عدتُ إلى بيروت في العام 1982، حيث أكملت ممارسة مهنتي كمقاولِ بناءٍ لفترة طويلة، وإنّني الآن متقاعد من عملي.

بدأتُ الحفظ سماعاً
• ماذا عن حقيقة تعلُّمكَ القراءة والكتابة فعليّاً، خصوصاً وأنك بدأتهما في الرابعة والعشرين من عمرك كيف كان ذلك، وماذا عن نوعيّة قراءاتك؟
منذ بداية حياتي، وتحديداً منذ الأربعينات من القرن الماضي، لم يكن في قريتي كُتَّابٌ أو حتَّى معلِّمُ لتعليم القراءة والكتابة. لكنّي وأنا في السنة الثانية من عمري، وجدتُ نفسي أحفظ الشعر، سماعاً ومن أول مرَّة، ذلك أنه، ولأن والدي كان ملمّاً بالقراءة، كانت تُقام في بيتنا وفي بيت عمّي – وخصوصاً في فصل الشتاء – سهراتٌ يُقرأ فيها كُتُب: "سيرة بني هلال" و"تغريبة بني هلال" و"الزّير وأبو ليلى المهلهل" وقصة الملك سيف بن ذي يزن"، إضافة إلى قراءة الشِّعر العربي الفصيح (الشِّعر العامودي). فتلك السّهرات كان لها الفضل الأكبر في معرفتي للقراءة، ومن ثم للكتابة فيما بعد، فأول قصيدة حفظتُها غيباً كاملة هي قصيدة أبي فراس الحمداني التي يقول فيها: "أراك عصيّ الدمع شيمتك الصَّبر….". كذلك حفظت أغلبَ الكُتب التي ذكرتها الآن. وفي العام 1948 وقعت نكبة فلسطين التي أوصلت إلى قريتنا المدرِّس في اللغتين العربية والإنكليزية الأستاذ علي حسين طيبا (من تربيخا)، وهو شقيق الفنان التشكيلي المعروف موسى طيبا.

ليرة لبنانية وثلاث بيضات
وبما أنني كنت مصرّاً على التّعلّم، فلقد قصدت الأستاذ علي طيبا لأنضمَّ إلى تلاميذه، ولهذا الأمر قصّةً تُروى. فلقد كنتُ ممارساً للتدخين (دخان عربي/ سجاير لفّ)، فعمدتُ إلى بيع أوقيّة دخان من كيلو الدخان الذي كان في حوزتي (وكان ثمنه خمس ليرات لبنانية) بليرة لبنانية واحدة، أعطيتها للأستاذ سلفاً، لقاء تعلُّمي عنده. كما بعتُ، أيضاً، ثلاث بيضات لصاحب دكَّانٍ في القرية بمبلغ ربع ليرة لبنانية (خمسة وعشرين قرشاً) اشتريت به كتاب "جزء عمَّ" (رُبْع المصحف/القرآن الكريم)، وقرأت فيه لمدّة شهر واحدٍ وبضعة أيام فقط، ذلك لأنني اضطررت، وبسبب من مرض والدي، لأن أنوبَ عنه في رعي البقرات التي نملكها، لذلك فإن الظروف المتلاحقة.
 كتابا الابتدائي والبريفيه
ظلَّت تُبْعدني عن التعلّم الحقيقي حتى بلغتُ الرابعة والعشرين من عمري، عندما كنت عاملاً في مهنة البناء، وأباً لثلاثة أولاد، وصودف أنَّ شقيق زوجتي قد ترك المدرسة (وكان في عمر 8 سنوات تقريباً) فأخذتُ منه كتاب القراءة العربية للصفّ الثالث ابتدائي، وأخذتُ أتهجَّى حروفه على ما كنتُ أذكره من قراءتي الأوليّة، حيث حملته معي مواظباً على قراءته في البيت وفي العمل، وفي الحقل، بعد انتهاء العمل، خصوصاً في فصل الصيف حيث كنتُ أجلس بمفردي تحت إحدى الأشجار للقراءة. وقد تمكّنتُ من إجادة قراءة هذا الكتاب في مدة شهر تقريباً. بعد ذلك استعرتُ كتاب الأدب العربي لصف البريفيه، من صديقي (ابن خالتي)، وهنا وجدتُ صعوبةً أكثر في القراءة لأنني كنت أقرأه أيضاً بمفردي. ومنذ ذلك الوقت، أي منذ العام 1960 إلى اليوم، ما زلت مواظباً يومياً على القراءة، والكتابة، فإني أقرأ في ما لا يقلّ عن ثلاثة ساعات يومياً، واليوم أصبح لديّ مكتبة، لا بأس بها، في بيتي، من كُتُبها 13 كتاباً لعلي الوردي، ومقدمة ابن خلدون، وتاريخ الطّبري. ومن الكُتُب التي قرأتها أيضاً كتاب "شعراء المهجر اللبنانيون" من بينهم محمد قره علي وجورج صيدح وإيليا أبو ماضي ونخلة معلوف، وهذا الكتاب قد "سرقته" من مكتبة صديقي الشاعر الكبير عبد المهدي فضل الله، الذي أهداني يوماً كتاب "ملحمة الغدير" للشاعر الكبير بولس سلامة، ولقد أحببتُ كثيراً شِعر رشيد سليم الخوري (الشاعر القروي) فتأثّرت بشعره إلى حدّ بعيد. وإني على الدوام أقرأ القرآن الكريم، وكتاب نهج البلاغة للإمام علي(ع).
• ما هي قصّة ولادة هذا الديوان، وماذا عن حقيقة شعورك في استقبالك لولادته؟
كانت لي محاولاتٌ شعريَّة قليلة حتى العام 2008، ففي هذا العام استُشهد صديقي ورفيق عمري ورفيق دربي الدكتور صابر القادري فكتبتُ قصيدة في رثائه، وقد شجّعني شقيقه الدكتور قاسم القادري (رئيس بلديّة كفرشوبا حالياً) على الاستمرار في كتابة الشِّعر، وهكذا استمررت في كتابة الشِّعر حتى وُلِد هذا الديوان. والذي أحسست لدى ولادته أنني حقّقتُ شيئاً يسيراً من طموحاتي المعرفيّة التي كنت أصبو إليها.

همومٌ متنوّعة وولاء ملتزم
• تفيض قصائد هذا الديوان، الزجلية، حبّاً جارفاً لمسقط رأسك ومكان جذورك، ومدحاً مطلقاً بالمقاومتين الوطنية، والإسلامية في لبنان، كما أنها إلى جانب تَوَهُّج بعضها بالنَّفسِ الغزليّ الحارّ، يتوهج معظمها بالأنفاس الحارَّة: الدينيّة والوطنيّة والقوميّة والعروبيّة، من خلال التزامها المطلق بالقضايا الكبرى على هذه الأصعدة جميعاً، فخلفيّة كل ذلك لديك ما هي مصادرها؟
ولدت في بيت متديِّن يؤمن بوحدانيّة الله تعالى ورسوله الأكرم(ص) وآل بيت رسوله الأطهار(ع). هذا في الجانب الديني أما عن الجانب الوطني، فإن نكبة فلسطين جعلتني أحمل الهمَّ القومي، والهمُّ الوطني لديّ بدأ من هنا. وبالنسبة للغزل في شعري فإنّي أحبّ شيئاً لا أراه، فإنني لم أحب واحدة بعينها. لكنّ قصائدي الغزلية استوحيتها فقط من محيطي الذي أعيش فيه، فلم أعش تجربةً عاطفية من أيّ نوع سوى مع زوجتي الحبيبة والعزيزة. وأما بالنسبة للعروبة، فإن الإنسان دائماً يبحث عن شيءٍ ليتكامل معه، من هنا، فإنّي تكاملت مع حزب البعث العربي الاشتراكي عن طريق صديقي علي صالح، منذ العام 1953، كما أن علاقتي توطّدت بالمقاومة الفلسطينية في العام 1969. ومن خلال ذلك كلّه نشأ التزامي، في شِعري، بالقضايا اللبنانية والعربية الكبرى عموماً، هذا إضافة إلى التزامي الأساس بمظلوميّة الإمام الحسين(ع) وأصحابه في موقعة كربلاء المجيدة، ومن هنا، كان لا بدّ لي أن أكون، قلباً وقالباً، وبدون شروط مع المقاومة الوطنية أولاً ومن ثم مع المقاومة الإسلاميّة. خصوصاً وأن المقاومة الإسلامية في لبنان هي المقاومة الوحيدة في العصر الحديث التي حرّرت أرضنا اللبنانية من الاحتلال الصهيوني من خلال تحطيمها ما كان موهوماً أنه أسطورة الجيش الذي لا يُقهر.
وفي النهاية أقول، إنني مع كل إنسانٍ رافضٍ للظُّلم لأيّ دين انتمى، فصحيح أنني أحبّ بلدتي رامية، ولكنَّ حبّي لها، لا يزيد أبداً عن حبّي لأيّ بقعةٍ في الجنوب اللبناني وأي بقعة من وطني لبنان ككل ومن الأرض العربية عموماً وعلى السَّواء.
 

السابق
قبلان:الليطاني حلم الصدر ومشروع كبير قام بفضل المقاومة
التالي
حرب القراصنة في الشرق الأوسط