وندر أن برز أحد العلماء العامليين ولم يتوجه إلى العراق العلاقة الفكرية بين النجف وجبل عامل

صنف الشريف المرتضى "لأهل صيدا مسائل فقهية سُميّت بالمسائل الصيداوية، عدا عن تصنيفه المسائل الطبرية والطرابلسية
العلامة الراحل محمّد جواد مغينة: النجف مميزة عن غيرها من الصروح الدينية بالحرية والديمقراطية في مسألة اختيار المرجعية.

يُعد التفاعل دائماً بين جبل عامل والنجف أمرا قديما وقلّما شمل مناطق لبنانية اخرى. وحتى رجالات الدين الّذين ذاع صيتهم في مناطق لبنانية غير جبل عامل إنما أصلهم يعود إلى جبل عامل مثل الشيخ حبيب آل ابراهيم في بعلبك الّذي لعب دوراً فقهياً وتعليمياً كبيراً في النصف الأول من القرن الجاري وذلك بعد أو وُلد وترعرع في الجنوب وتعلّم في النجف وسكن في بعلبك".
وبالعودة إلى تاريخ التشيع في جبل عامل يتفق المؤرخون على أن سكان جبل عامل هم من العرب القحطانيين الّذين نزحوا من اليمن وقد اعتنقوا الإسلام بعد الفتح الإسلامي لبلاد الشام وتشيّعوا على يد الصحابي أبي ذر الغفاري أثناء نزوله في بلاد الشام أيام معاوية بن أبي سفيان. "فمنذ نزول أبي ذر في بلاد الشام بدأت بذرة الموالاة لعلي بن ابي طالب في تلك البلاد وما زالت حتى يومنا هذا".
أما الشيخ محمّد بن الحسن الحر العاملي فيقول: "إنّ تشيّعهم (العامليين) أقدم من غيره…لم يسبق أهل جبل عامل إلى التشيّع إلاّ جماعة محصورون من أهل المدينة".

العامليون والتشيّع
ولقد لعب شيعة جبل عامل دوراً مهماً في التاريخ الشيعي على مختلف العصور لأنهم كانوا في صدارة المدافعين عن الفكر الإمامي ولأن الأنظمة المتعاقبة منذ أيام معاوية بن أبي سفيان حتى الخلافة العثمانية كانت تستهدف الشيعة أينما تواجدوا وهذا ما كان يدفع أهل جبل عامل إلى مد تحالفاتهم إلى الشيعة الايرانيين في مرحلة أولى وتحديداً إلى الدولة الصفوية وإلى العراق لاحقاً بعد أن تمّ تأسيس النجف الأشرف.
"فهذا الشيخ حسين بن عبد الصمد والد الشيخ البهائي أمره الشاه طهماسب الصفوي بالتوجه إلى هراة، وأهلها لا يعرفون المذهب الإمامي، وأعطاه ثلاث قرى من قراها فبقي فيها ثمان سنين يعلّم الناس الأمور الدينية والأحكام الشرعية فاعتنق خلق كثير مذهب الإمامية الإثني عشرية".
وتوثقت وتمتنت هذه العلاقة بشكل أساسي في عهد الخلافة العثمانية حيث كان ارتباط العامليين بالدولة الصفوية ناجم عن "الوحدة المذهبية التي تجمع بين الصفويين أعداء الدولة العثمانية في الشرق وبين الشيعة الإمامية الخاضعين للدولة العثمانية لا سيّما في مناطق الحدود بين الدولتين وبلاد جبل عامل.
وتروي بعض كتب التاريخ ان الكثير من العامليين قصدوا بلاد الصفويين حيث تولوا فيها مناصب الافتاء والتدريس بعد أن ذاع صيتهم في هذا المضمار وبعد أن برز منهم علماء متفقهون أمثال الشهيد الثاني زين الدين الجبعي، والمحقّق الميسي، وبهاء الدين العاملي، والحر العاملي وغيرهم.
الشهيد الاول
ويذهب البعض إلى القول ان الشهيد الأول واسمه الشيخ شمس الدين أبو عبد اللّه محمّد بن مكي العاملي الجزيني قد ارتحل إلى العراق ودرس بالحلة وبغداد وفي مكة والمدينة ودمشق والقدس وعاد إلى بلاده لتركيز قواعد التدريس ونشر العلم فاستطاع أن ينهض بجبل عامل نهضة كبيرة بحيث أصبحت المدرسة التي أسّسها في جزين تضاهي النجف بعد أن حدثت غارات التتار ووقعت نكبة بغداد.
واستمرت هذه المدرسة في عطائها إلى حين خروج "المتاولة" أي الشيعة من جزين سنة 1171هـ /1757م على أثر الحروب التي دارت بينهم وبين سكان الشوف حيث تم استبدالهم بفلاحين من الطوائف المسيحية.
وحدود العلاقة بين النجف وجبل عامل لا تتوقف عند المبادلات الفكرية والتثقيف والتدريس بل تصل أيضاً إلى جذور العائلات حيث انّ هناك لبعض العائلات العاملية جذوراً في النجف مثل آل أبي جامع المشهورين بآل محيي الدين وقد انتقل بعضهم إلى النجف وبقي هناك مثل الشيخ على بن الشيخ أحمد المذكور. ثمّ آل الأمين ويذكر في هذا الصدد العلاّمة الشهير السيّد محسن الأمين قائلاً: "انّ جد هذه الأسرة السيّد أحمد بن ابراهيم بن أحمد بن قاسم الحسيني الحلي العاملي (هو أو والده السيّد ابراهيم) أوّل من انتقل من العراق من الحلة السيفية إلى جبل عامل في حدود سنة 1080هـ /1669م وتوطن في قرية كفرة من عمل صور وتبنين".

اهتمامات متبادلة
اضافة إلى ذلك، وكما اهتمت العائلات العاملية بالنجف فقد اهتم علماء النجف بجبل عامل حيث صنف الشريف المرتضى "لأهل صيدا مسائل فقهية سُميّت بالمسائل الصيداوية، عدا عن تصنيفه المسائل الطبرية والطرابلسية".
وتردد أيضاً أن علاقة أبناء جبل عامل بالنجف شملت اضافة إلى الشريف المرتضى الشيخ المفيد وتلميذه الكراجكي. وأسباب متانة العلاقة بين جبل عامل والنجف تعود إلى عدة عوامل أهمّها:
أولاً: انّ كلاً من جبل عامل والنجف كان يعتبر الآخر هو عمقه وسنده لأن الشيعة الإمامية كانوا يتعرّضون أينما تواجدوا لنفس القهر الفكري الإنساني.
ثانياً: ممارسات العثمانيين الاضطهادية دفعت النجف والعامليين إلى تنسيق الجهود خوفاً على عقيدتهم من الاندثار وعلى أتباعهم من التشتت. ولهذا يقول المفكر علي ابراهيم درويش: "لقد زار معظم العلماء العامليين مدارس النجف، وندر أن برز أحد العلماء العامليين ولم يتوجه إلى العراق، للدرس في مدارسها أو للتدريس في أرجائها".
وإثر سقوط بغداد بيد التتار عام 656هـ وبعد أن أمست وسائل الاتصال بين العامليين والنجف شبه صعبة خلال فترة زمنية محدّدة فقد بذل المفكرون والفقهاء العامليون جهوداً مضنية لتأسيس مراكز ثقافية ومدارس ومكتبات ذات مكانة مرموقة في جبل عامل لتكون وريثة النجف فيما لو تعذر عليها مواصلة رسالتها الروحية والثقافية.
 ولهذا نلاحظ أن المدارس التي انشئت خلال هذه الحقبة التاريخية في جبل عامل كانت ذائعة الصيت وقد خرّجت مجموعة كبيرة من المتعلمين والمتفقهين. ومن أهم هذه المدارس:
– مدرسة جزين التي أنشأها الإمام العلاّمة الشيخ السعيد شمس الدين محمّد بن مكي الجزيني العاملي المعروف بالشهيد الأول.
– مدرسة شقراء.
– مدرسة ميس الجبل وأسّسها العلاّمة الفقيه المحدث الشيخ علي بن عبد العالي الميسي.
– مدرسة عيناتا.
– المدرسة الكوثرية.
– المدرسة الحنوية.
– مدرسة بنت جبيل.
– مدرسة جبع.
أما خارج جبل عامل فقد تأسّست:
– مدرسة كرك نوح في البقاع.
– المدرسة النورية في بعلبك.
– مدرسة مشغرة.
واستمرت هذه المدارس تقوم بدورها الديني والتعليمي حتى بداية القرن العشرين حيث بدأت بالزوال وكانت آخر مدرسة قد أقفلت أبوابها هي المدرسة الحميدية أثر وفاة مؤسّسها العلاّمة السيّد حسن يوسف الحسيني عام 1906م وذلك بعد أن ضيّقت عليها السلطنة العثمانية ونتيجة الخلافات التي نشبت بين جبل عامل والمناطق اللبنانية الأخرى المجاورة والتي ينتمي أبناؤها إلى طوائف متعدّدة. وكما ازدهرت حركة المدارس فقد ازدهرت معها حركة المكتبات والتي أسهمت "في تسريع عملية النهضة العلمية وفي نشر المعرفة".
كما كان الشيخ مغنية يرى انّ النجف أكبر من أن يحاط باهتماماتها وعلومها في أسطر بسيطة فإنّه في الوقت نفسه كان يرى أن أي نجفي يجب أن يلم بأمور عدة لكي يصح أن يعلق عليه اسم كاتب. "إنّ الكاتب أي كاتب نجفياً كان أو غير نجفي، مؤلفاً أو غير مؤلف لا يكتب النجاح لأقواله إلاّ إذا حقّق أحد هذه الأمور:
الأول: أن يأتي بجديد لا يعرفه أحد غيره.
الثاني: أن يجلو غامضاً استعصى فهمه على غيره.
الثالث: أن يساند الحق بالأرقام والحجج الدامغة، ويدفع شبهات المبطلين بسلاح أقوى وأمضى من أسلحتهم وأباطيلهم".
وبرأيه أن النجف ليست فقط جامعة دينية بل هي صرح علمي يخرّج الأدباء والشعراء. ويقول محمّد جواد مغنية في هذا الصدد: "والّذي يستلفت النظر أن النجف ـ وهي جامعة دينية، وليست مدرسة تعلم الفن والجمال ـ قد خرّجت أمراء في الشعر، بل وأئمة أيضاً، كما تخرجت أئمة في الفقه وأقطاباً في العلم والفلسفة".
ويعتبر محمّد جواد مغينة أن النجف مميزة عن غيرها من الصروح الدينية حيث تشيع الحرية والديمقراطية في رحابها وتحديداً في مسألة اختيار المرجعية. وممّا يقوله: "إن كان للشيعة ـ اليوم ـ حسنة تذكر فتقدر فهي استقلال منصب الرئاسة الكبرى عن السياسة والسياسيين، وتعيين الرئيس الأول، واختياره للمنصب الأكبر بالعلم والعدل فقط لا غير، لا بمرسوم من حاكم، ولا بشفاعة ظالم ولا بانتخاب من منظمة معينة، أو أفراد معدودين، بل بنص طبيعي من سيرته وشخصيته ومؤهلاته، وتاريخ حياته منذ الطفولة إلى عهد الشيخوخة حتى إذا كانت طاهرة نقية قلنا جميعاً: وجدناه، فهو هو دون سواه…وقد امتاز الشيعة بذلك عن سائر الطوائف، تماماً كما امتازوا بتفسير عصمة الأنبياء من أنها النزاهة عن الذنوب قبل النبوة وبعدها".
والمعلوم إن كتابات وأفكار محمّد جواد مغنية كانت قد راجت بشكل كبير في فترة الخمسينات والستينات في الأوساط الشعبية العراقية وذلك لتشعب المواضيع التي عالجتها ولسهولة الأسلوب الّذي استخدمه.
(مقتطفات من دراسة مطولة)
 

السابق
نديم الجميّل: على الهيئة العليا للاغاثة التحرّك فوراً لإيواء العائلات المنكوبة
التالي
بيان لنقابات العمال – الجنوب: لعدم المساس ببدلات النقل