لماذا نمارس جميعنا الكاموفلاج ؟!

في لبنان ثمة عادة متعارف عليها عند السياسيين ألا وهي انكار ما قالوه في جلساتهم، وقد يصدّق المرء هذا السياسي أو ذاك، خاصة في حال كان من مناصريه ومؤيديه، في حال انكاره واستنكاره لقول أو لحديث جرى بينه وبين أحد الصحفيين، الذين قد يسكتون خوفا من أذيّة ما تلحق بهم.

ومع وثائق “ويكيليكس” الشهيرة، ادّعى الجميع براءته مما نشر فكانت “ويكيليكس” السوط الذي قطع دابر التلوّن والكذب والنفاق، حيث يقول الإنسان في جلساته الخاصة ما لا يقوله أمام عامة الناس، خاصة ان القائل هو رجل سياسة، ويرغب في أن يحفظ خط الرجعة في وقت آخر. ويُعدّ النائب وليد جنبلاط زعيم (العود الأبديّ النيتشويّ).
فغالبا ما كان يصرّح تصريحا ما، ويعود ليطلب محوّه وانكاره والتبرؤ منه، وله في هذا مواقف ومواقف، وله أيضا جرأة الطلب والتوضيح. أما وثائق “ويكيليكس” فقد صارت كالولد غير الشرعي، اذ تبّرأ منه الجميع وأبعده عنه، ورماه بأقذع الأوصاف. وإن لم تتوان هذه الوثائق حتى عن فضح “المرّين”.

لكن ان تصل العادة اللبنانية، التي جعلت السياسة من أهلها كالدولاب لا يركنون الى مكان ثابت، أن تصل هذه العادة السيئة من الإنكار والنفي والتوضيح وغيره الى اللقاءات والمقابلات الإجتماعية أو الأدبية وغيرها من أنواع الكتابة غير السياسية، فإنه لأمر عجيب.
أن تُجري مقابلة مع باحث، أو رجل دين، أو كاتب، أو رئيس بلدية، أو رئيسة جمعية، أو شاعرة ، أو موظف، أو باحث، ويُلحق مقابلتك معه بتوضيح، وتنويه، وإنكار، ونفي. فإنه لأمر مستغرب.
علما ان هؤلاء جميعا يفتحون قلوبهم ويأخذون بسرد ونقل ما لذّ وطاب لهم ولهن من حكايا وقصص، متناسين أنهم قُبالة مخبر(بالمعنى المهنيّ للكلمة) صحفي يبحث عن كلمة كمفتاح للنص، مدّعين أنهم طلبوا عدم ذكر ذلك.
وهم، أي الضيوف الكرام، والذين احترم وأُجلّ، كونهم منحوني فرصة لقائهم، يبحثون عن نافذة ليعبّروا عما في صدورهم، فلا يتوانون عن ذكر تفاصيل غريبة عجيبة، مؤكدين رأيهم في نشرها وقولها. لكن ما يزعجهم هو أن الآخر(القارئ) الذي يقرأ لهم وعنهم، يتفاجأ بأقوالهم الفجّة غالبا، والصريحة أحيانا، والمؤلمة أحيانا أخرى، وهم من تعوّد منهم المسايرة والمداهنة خوفا على علاقاتهم ومصالحهم ومواقفهم التي قد تؤدي بهم الى قطع أرزاقهم، كما حصل لإحدى الموظفات في شركة كهرباء الزهراني التي طُردت من عملها كونها، عبّرت عن اعجابها بإحدى القوى السياسيّة المناهضة للمُشرفين على إدارة الشركة.

وهم عندما يتراجعون، فإنهم يفعلون ذلك بعد الإطلاّع على كلامهم الحقيقي والواضح، والذي لا لبس فيه على صفحات الإعلام المكتوب، والذي هو نوع من وجود مؤبد لا ينفك يذكرّهم بخطئهم، كلما اطلّع أحدهم على نص المقابلة ولو بعد حين من الزمن.
يتراجعون متهميّن من أجرى المقابلة بأنهم (ويا للغرابة) قالوا ذلك خارج إطار المقابلة، وخارج إطار الحوار. أنا أفهم أن يخبّئ المرء بعضا من مواقفه الحقيقية، وهذا حق له، ولكن ان يكون المُعلن المُعدّ للنشر مختلف وبدرجة 180 كليّا عن المقال، فهذا أمر مستغرب ومستهجن.

وهو على كل رائج جدا في لبنان أكثر مما يتصور بكثير. لدرجة أن أحدهم أعطاني نص المقابلة مكتوبا، وعند النشر قام بنكران ما كتبه. انه لأغرب موقف تعرّضت له في حياتي.
والأغرب من ذلك اني استشهدت بمقطع لكاتب حيث اقطعته من نص منشورلأؤكد كلامي، فكان ان أنكر المقابلة كليّا رغم انه منقول حرفيّا من جريدته الحزبيّة التي يعمل فيها.
من هنا اسأل: هل باتت الناس تفكر عكس ما تُفصح؟. ولماذا يفضحون خباياهم أمام الصحافة إن كانوا يرغبون بالمداورة والمسايرة؟

عضوة في احدى البلديات الجنوبية غضبت عندما رأت كلامها على صفحات احدى المجلات منشورا، غضبت، وتشنجت، وعصبت، واتهمت، بحجة انه تم وضع كلامها كعنوان فرعي، وهي لا تريد لأحد ان يطّلع على ذلك، علما انه موجود داخل النص حرفيّا. وبررت استنكارها، أن أحدا لا يقرأ في بلدتها، لكن العنوان- حسب رأيها – قد يجرّهم الى قراءة التفاصيل! اذن لمن توجه كلامها؟ لنفسها؟ أم لي انا؟.
الأمر مضحك مبكّ. والأمثلة كثيرة جدا وجدا وجدا. اما الأغرب فهي مقابلة نفى فيها صاحبنا ثلاثة أرباع ما جاء على لسانه عن بلدته، علما اني لا أعرف بلدته ولا أعرف ما يدور فيها من خبايا. ولا أدري هل هو مستهدف لدرجة انيّ لفقت له مقابلة عن بلدته وتاريخها؟ ولصالح من؟ الى الان لا أعرف. لعليّ أتعاون مع الأشباح ضد كل هؤلاء؟.

وقد حافظت مطوّلا، ومنذ البداية، على نشر التوضيحات، والتنبيهات، والتصحيحات، عافّة عن نفسيّ الرد على الردود، مشفقة على الجميع، وأحيانا خوفا من أن أخسر بعضا من أصدقاء ألداء لي.
لكن ان تصل الأمور الى حدّ لم يعد يُحتمل او يُتّحمّل هذا القدر من الإنكار والإستنكار فإنه لأمر معيب!
وأخيرا، ربما لا أحدا يقرأ “الكموفلاج” الذي يعملونه؟

السابق
الدفاع المدني: يتم رفع الانقاض حاليا بالايادي وليس الالات
التالي
فياض: الإجراءات التي تجري بلورتها لن تمس بالخدمات الأساسية والبرامج الاجتماعية